التسميات

الأربعاء، 22 يونيو 2011

خاتم العشاق

خاتم العشاق  

بقلم :زاهر الجيزاني

1
“ كيف تغنّـون بهـذه الطريقـة؟
لماذا تخرجُ النجوم من أصواتكم؟”


1 - كلما قرأت قصيدة لخزعل الماجدي تكون لدي حافز قوي للبحث عن مصدر الصوت أقصد مصدر جملته الشعرية والشاعرخزعل الماجدي صديق العمر لذلك كتابتي عن شعره مجازفة مرة استمعت اليه-في بيته-وقد قرأ لي ثلاثة دفاتر فيها عدد من القصائد الطويلة منها خزائيل و فيزياء مضادة والياقوتاتولم يكن بيننا كأس جمشيد كان بيننا كأس أبي نؤاس-كان خزعل مستمتعا بالقراءة وأنا أصغي وبقينا الى الفجر كنت أنتقي جملا وكلمات تشكل الزوايا الضرورية لمعمار القصيدة –بدت لي القصيدة (كلا) لا أهمية لها من غيربضعة مفاصل تتألف من بضع كلمات وجمل تعطي للمعمار الشعري( تأثيرا).
قصائد خزعل طويلة وأحيانا طويلة جدا مثل(حية ودرج)والقصيدة الطويلة دائما تتوقف عن النمو في مكان ما وتتحول الى (تراكم) وتظهر سمة الاعادة واضحة ممكن أن أحيل قارئ الشعر الى قصائد طويلة- مثل مفرد بصيغة الجمع لأدونيس وقصيدة-غيوم- لأنسي الحاج –وخزعل كان منتبها لهذه المعضلة لذلك تميز بالالحاح الضاغط على كلماته وجمله كي تتبادل المعاني مع بعضها البعض كي يصل الى مسعاه –ماهو مسعى شعر خزعل الماجدي؟


خبز الصداقة ينضج في فرن الأيام

 خبز الصداقة ينضج في فرن الأيام


الى خزعل الماجدي كان عهدي عهدك بالهوى..

بقلم : علي عبد الأمير عجام

كان فتى كليتنا الوسيم، ابنها المثقف، رفع من قصة حب شخصية عادة ما تشهدها اروقة الجامعة تلك الايام الى مستوى من الرقة والشجن والامل، فجعل حبيبته رمزا ونشيد عاشقين تحول الى قصيدة حب عراقية من نوع فاتن.
كانت سعادتي لاتوصف حين دعاني وانا القادم الجديد الى جو الجامعة المفتوح لمشاركته غرفته الصغيرة في القسم الداخلي لكليتنا(الطب البيطري) والكائن بين منطقة من البساتين والانهار تعود اصلا لحقول كلية الزراعة التجريبية في ابي غريب، واثنى على "المشترك" الذي بيننا: الشعر ومحبة الموسيقى، مؤكدا انهما يكفيان للثقة، رغم "المختلف" الذي بيننا، هو كان مفتونا برامبو وانا مأخوذ بنيرودا وناظم حكمت.
غرفة صغيرة جمعتني الى خزعل الماجدي، لكنها موقد تنبعث من نيرانه السرية الاحلام والاغنيات والافكار والتوهجات الشخصية في مزيج كان اكبر من شكل القصيدة، واوسع حتى من آفاقها التعبيرية: ألم نخرج معا كمن مسهما جنون خاص الى طرق عاصفة ممطرة في ليل تهز ريحه الاشجار، كي نغني ونحن نشترك في زجاجة عرق صغيرة، غنى بشجن مشرق بالدمع: " كان عهدي عهدك بالهوى يا نعيش ســوا يا نموت سـوا...أحــلام وطـارت في الهوى" الفـالــــــــس الراقص من لحن عبد الوهاب لمونولج "أهون عليك".
كانت " احلام" في الاغنية التي اختارها الماجدي دامعا، هي كناية عن "احلام" الحقيقية: سيدة عمره وفاتنة ايامه.


الماجدي شاعراً مسرحياً



الماجدي شاعراً مسرحياً
 
بقلم : د. كريم شغيدل


عرفته مطلع الثمانينيات شاعراً يفلسف الشعر وينأى به عبر موروثات مهملة من السحر والعبادات القديمة، ويشعرن الفلسفة فيغادر منطقياتها عبر المتخيل والغنوصيات والارتماس بأنوار الإشراق والتصوف، مخلصاً للشعر حد الاعتقاد بأسطورية الشاعر الخلاق ونبوته ورسوليته منقذاً لما تبقى من الكون، مما لم تمسه نار القبح ولم يغرقه طوفان البشاعة.

استثمار ملحمي ليومياتنا



استثمار ملحمي ليومياتنا  
بقلم: باقر صاحب

لعل العمل الشعري (أحزان السنة العراقية)يمثل استثمارا ملحميا لما حل بعراق مابعد 2003، من أعمال عنف وصلت تخوم الحرب الأهلية،أعاقت تحولات مرحلة انتقالية نحوتغيير جذري منشود، مازال فردوسا وليس واقعا.
على صعيد الإبداع ،هناك إحساس بعجز اللغة عن تجاوز غرائبية الواقعي الى الخيالي ، كيفية إعادة إنتاج لحظات متلاطمة بالدماء والعويل والقبور، لحظات مارقة، لن تستطيع الإمساك بها بلورات مخضبة بفقدانات تتضاعف في مرآة الشاعر ساعة تلاحم الذات بالموضوع، كيف هو حال شاعر مثل الماجدي خطف الإرهابيون ابنه مروان ومازال مصيره مجهولا، كيف تصاعدت ذروة السرد الملحمي ،للحظات وساعات وأيام انتظار العودة المفترضة للغائب ، كأنما عودته تجدد الأمل بانتصار الحياة؟ كيف تكون المعالجة الإبداعية لشاعر مثل الماجدي لهكذا حدث ، شاعر غزير مثابر ساع إلى تطوير مستمر لتجربته الشعرية، كل مجموعة قصائد بشكل جديد ، بما يمنع تنميط هذه التجربة .
عمله أحزان السنة العراقية، يبث عنوانه تكثيفا لضراوة متن شعري ملحمي ، عنوان...مفرداته ضامة لتركيب لغوي يشف عن ثلاثة أقانيم أراد المتن تفعليها، مفردة (أحزان)معبرة عن تراجيديا خاصة وعامة، وهي ليست مضافة إلى مفردتين محددتين للزمن والمكان(السنة العراقية)، بل هي متآصرة معهما وخصيصة أزلية فيهما، فالسنة المشار إليها 2006 تمثل ذروة التراجيديا العراقية ، تراجيديا استلاب،عنف ودم ضاربة جذورها في التاريخ، اختزال الماجدي لكل تأريخ الحزن العراقي فيها يمنح سرد الوقائع اليومية لعام كامل بعدا فنتازياً .

عن خزعل الماجدي وجيل السبعينيات



عن خزعل الماجدي وجيل السبعينيات
 

بقلم : خليل صويلح
السبعينيات في العراق، أو معظمه، وخصوصاً في مجال الشعر. خزعل الماجدي واحد من هؤلاء الذين دفعوا ضريبة الحرب والحصار، فانطوت قصيدته في منطقة نائية، تحفر بصمت في مشغل شعري خاص، بعيداً عن هتاف «شعراء القادسية». نكتشف اليوم ثراء تجربة صاحب «يقظة دلمون» (1980) وتعدّد مرجعياتها، كأنّ هذا الشاعر حفيد شرعي للمدوّنات السومرية لجهة الغنائية والشجن والوحشة. صدور أعماله الشعرية في ثلاثة مجلدات (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) مناسبة لتلمّس محطات أساسية في هذه التجربة.

خزعل الماجدي : الدور التنويري للأدب والشعر في العراق



خزعل الماجدي : الدور التنويري للأدب والشعر في العراق يتراجع تمهيداً لسيادة أدب الظلام

أجرى الحوار- كاظم حسوني

خزعل الماجدي... من ابرز فرسان الجيل الشعري السبعيني في العراق، رؤاه الجذرية في الشعر جعلته شيخ طريقة شعرية لها مناصروها، لكن الشعر قاده الى عوالم الاسطورة والتاريخ القديم ليكون باحثاً بارزاً في هذا الشأن، تشهد على ذلك كتبه التي بلغت العشرات حاملة الجديد والمبتكر، اضافة الى ذلك فهو كاتب مسرحي ومؤرشف للسينما العراقية، نطاق بحث واسع واشتغالات كثيرة كانت محور اسئلة حوارنا معه في هذا العدد من (ادب وثقافة) المخصص لتجربته.

الاثنين، 20 يونيو 2011

اللغة والشاعر، الشعرية تشهد على كل عصر

اللغة والشاعر، الشعرية تشهد على كل عصر
خزعل الماجدي

طاقة اللغة محفوظة غير مبددة عكس طاقة اللغة في الحقول الأخرى فإنها تؤدي إلى المنفعة والتداول والفهم.. أما طاقة اللغة الشعرية فمحفوظة داخل الشكل الشعري لا تتبدل ولا تستهلك.هل يمكننا إذن وفق هذا الفهم أن نعيد تعريف الشعر لغويا فنقول بأنه اللغة عندما تحتفظ بطاقتها وهل يمكننا أن نعرف النثر لغويا فنقول بأنه اللغة عندما تتبدد طاقتها أو تستعمل طاقتها أو تستفيد من اجل شيء معين.يمكننا أن نمضي في هذا الاستنتاج ونقول إن اللغة في الشعر طاقة غير متحولة في حين تكون اللغة في النثر طاقة متحولة إلى نوع آخر فمثلا النثر الخارجي)الموضوعي والعلمي) يحول اللغة إلى العمل والإخبار والتحريض والوصف والنثر التعليمي يحول إلى معارف ومعلومات وهكذا، أما طاقة الشعر اللغوية فلا تتحول بل تبقي متوهجة داخل ذاتها ولذلك يندرج النثر في التاريخ ويستعصي الشعر علي التاريخ لأنه لا يتعاقب ولا يتحول ولا يستنفذ بل يبقي شيئا وسط الأحداث والخطابات المنوعة التي حوله.مثلاً تقف قصائد المتنبي واقفة في القرن الرابع الهجري في حين أن سلطات وإعلام وأخبار وقوانين وعادات القرن الرابع الهجري اندرجت في التاريخ.وتقف قصائد رامبو في القرن التاسع عشر المليء بالأحداث والأخبار تقف نضرة مشعة يتأملها إنسان في نهاية القرن فيجدها طازجة قوية مليئة بالحيوية.هل يعني هذا أن أية رسالة يكون موضوعها الرسالة نفسها (لا تأخذ موضوعها مما حولها ولا تدل عليه).. هل يعني أنها يجب أن تكون رسالة شعرية بالمعنى المتعارف عليه أو لنقل نصوصا شعرية؟
بالتأكيد كلا.. لأننا عندما نتحدث عن وظائف اللغة ونجد أن إحدى وظائفها هي الشعرية (لأن مضمون الرسالة أو اللغة هو اللغة نفسه وليس ما تدل عليه) فهذا أمر مختلف تماما عن حديثنا عن فن الشعر الذي هو الإجراء الفني وليس غايتها فقط.ولنقل بصورة أدق إن الشعرية هدف لا يتحقق إلا بالفن أما الوظيفة الشعرية فأمر يمكن أن نضعه في الغايات أو النوايا الشعرية التي قد تنجح أو لا تنجح في تحقيق ما تذهب إليه.هذه المقولة تنسف كليا تهم (الذاتية واللغوية والغموض) للشعر وتحلها حلا معقولا لان من طبيعة الرسالة التي تعالج فيها موضوع الرسالة نفسها أن تكون ذاتية لغوية غامضة بعض الشيء.لابد من إثارة هذا المفهوم لأن خلطا كبيرا يحصل دائما بين الوظيفة الشعرية والوظائف الأخرى الاجتماعية، السياسية، التعليمية، الانفعالية، النفعية.. الخ) التي تندرج ضمن الوظائف الموضوعية الاستهلاكية للغة.لا اقصد هنا مطلقا عدم انفتاح الغاية الشعرية للغة وهي في طريقها إلى التحقيق على هذه الوظائف ولكننا يجب أن نطالب الشعر بأن يخضع لهذه الوظائف فتنحرف الغاية الشعرية وتصبح تابعه لوظيفة أخرى.لا نستطيع هنا أن نحسم أمرا ونقول بأن ما يكتب من شعر يجري في هذا المجرى ولكن الشاعر وهو يصنع من نفسه شاعرا حارسا لعظمة الشعر ولنقائه وقوته يزداد وعيه إلى درجة من هذا النوع لا تسمح له أن يكون تحت مطرقة الغايات الأخرى ثم تابعا ذليلا لها.إن الشاعر وهو يتقدم إلى الغاية الشعرية يحتاج إلى بطولة وعي شعري تتماسك وتزداد وتشمخ مع الوقت ويجب قطع الطريق دائما على تراجعها ومجاملاتها وتهافتها.

.غسل الكلمات
المفردة في الشعر القديم مغيبة الهوية تركض باتجاه المعنى الذي اقترح لها اعتباطا ذات يوم، تكرس ما خلقت من اجله ولذلك فهي أداة استعمال وأداة توصيل لا أكثر ولا اقل.. المفردة في الشعر القديم لا شخصية لها.. حيث المعنى سيد الموقف.وإذا افترضنا أن اللغة تناظر الحياة في تكوينها وعفويتها وقوانينها الداخلية لأنها تنشأ من نمو الحياة وتطويرها فلماذا لا نعد المفردات (الكلمات) هي الكائنات الحية في هذه الحياة وان لكل منها استقلاله وشخصيته فهي مثل أنواع النباتات وأنواع الحيوانات وأنواع الأحياء المجهرية التي نعيشها لها حياة خاصة وخفية لا ترى منها في أحيان كثيرة إلا ظاهرها وان لها علاقات ببعضها هي علاقات تعايش وتجارب ونقض وبقاء.في الحياة اليومية الاستهلاكية يمكن أن تعمل اللغة أداة توصيل وتفاهم حيث تضحي الكلمات (الكائنات الحية) بحياتها وشخصيتها ونبضها من اجل أن يتفاهم الإنسان مع الإنسان وان يتواصل هذا التفاهم فهي أي المفردات لا تقبل بمثل هذه التضحية طواعية بل يرغمها الاستهلاك علي أن تكون هكذا لكن الأدب هو الذي ينصف هذه الكائنات وعلاقتها ويعيد لها الاعتبار والشعر هو أكثر أجناس الأدب حرصا علي عدم التبديد بالكلمات (المفردات) وبعلاقتها فهو يغسلها من الاستخدام اليومي الروتيني الذي مسخ شخصيتها ودمرها ويعيد لها الاعتبار والقوة.. يضعها في استخدام جديد يوحي أن الحياة (الحياة اللغوية) كلها مجسدة في هذه المفردة ويضعها في علاقة غير عادية.. غير متوقعة يتخذ لها مكانا ويجلسها فيه ولهذا يصبح النص الشعري مدهشا لأنه:
  1. أعطى معنى جديدا للمفردة.
  2. وضعها في علاقة جديدة. وهكذا تتجدد اللغة مما يسبب في تجدد حياة الإنسان وإنعاشها وتوترها وتطورها.
العلاقات اللغوية القديمة في الشعر والنثر علاقات محددة أو مصنفة بلاغيا حيث لا خروج ولا تدافع ولا تسلح ضد البلاغية بل إجادة وسبك لها، ووضعها في قوالب جامدة.ويأتي كساد المفردات وعلاقتها في الشعر القديم من صرامة النظام اللغوي والعقلي الذي سجن داخله الروح الإنساني وكبلها وهكذا تأتي الرؤية ضرورة جذرية لتحرير الشعر والعقل من قواهما السلبية هذه الرؤية تتضمن شيئا لا تفصح عنه الحياة العادية الاستهلاكية شيئا خارقا للعادة شيئا استثنائيا ومفاجئا يتضمن بالضرورة وضع المفردات والعلاقات في صيغ جديدة.لقد تبنت البنيوية دراسة العلاقات بين المفردات بكونها حقيقة اللغة وجوهرها فاللغة في نظرها علاقات وليست مفردات وهكذا اهتمت الدراسات الألسنية الحديثة بالعلاقات اللغوية (الصوتية والصرفية والبلاغية والأسلوبية) وتوصلت إلى نتائج في غاية الأهمية في هذا المجال لكنها بالمقابل أهلت وجود الأشياء اللغوية أي المفردات وعدتها مجرد قطع شطرنج يمكن أن تكون خشبا أو حديدا أو عجينا أو طينا لا فرق المهم في ذلك هو أن لعبة الشطرنج وبالتالي لعبة اللغة تخوض وفق قوانين داخلية معروفة وقد كشفت عنها حقاً في نظريات متعددة كان أهمها نظرية شومسكي التوليدية التي أعطت تصورا مقنعا عن قوانين اللغة التوليدية والتحويلية.لكن المفردات ظلت بمنأى عن البحث اللغوي الشامل ثم تخصص به فرع اسمه علم الدلالة. ولم تتضافر علوم اللغة مع علوم الدلالة لإظهار تصورات مقنعة عن اللغة بصورة عامة واللغة الشعرية بصورة خاصة.لكن الشاعر وهو يخوض في دراسته كل هذه العلوم لا يمكن له أن يتقيد بها بل عليه دائما أن يفهمها ويهضمها ثم يخرج ويجعل من قوانينها الصارمة في حرج دائم.إن عدم انصياع الشاعر لعلوم اللغة لا يعني عدم دراسته وفهمه بل العكس هو الصحيح فالخروج الواعي يتم بعد الدراسة والتقصي الكثير من الشعراء لهم سليقة فطرية للخروج على القانون وهذا شيء أساسي ومهم ويجب إدامته حتى وهو يخترق ويفهم طبقات المعارف التي تخص اللغة بمعني أن العفوية وعادة الخروج علي السياق يجب أن تنشط أكثر عندما ينتقل الشاعر من مرحلة الأمية الثقافية إلى مرحلة التسلح بالمعرفة.. وهذا يفتح أمامنا باب النقاش واسعا وكبيرا.فإذا كان الشاعر كبير الموهبة قليل الثقافة يحتاج إلى قدر معين من العفوية والفطرية.. فان الشاعر كبير الموهبة كبير الثقافة يحتاج إلى أضعاف هذا القدر من العفوية والفطرية لأنه مضطر دائما إلى تذويب هذه الكتل المعرفية بالكثير من العفوية والخروج الدائم عليها.وهنا يمكننا أن نحل الإشكال السابق ونقول:إن الشاعر الجيد المثقف هو أكثر عفوية وفطرة من الشاعر الجيد غير المثقف لأنه تسلح وهو يخترق الثقافة بالكثير من العفوية والفطرية حتى يكون جيدا أو حتى يحافظ على طراوة موهبته.وهذا يعني أن الكثير من الشعراء الجيدين غير المثقفين يخافون من المزيد من الثقافة لأنهم يشعرون بان ذلك سيتطلب منهم فطرة أعمق وأخصب مما هم عليه الآن.وهذا التحليل نفسه يلقي الضوء على أن الشعراء الجيدين الذين ضعفت مواهبهم الشعرية بعد المزيد من الثقافة هم شعراء يحملون قدرا محدودا من العفوية والفطرة لا يتحمل هذا القدر من الثقافة والمعرفة ولذلك تحطمت مواهبهم تحت هذا الثقل. إنهم لم يقدروا حجم موهبتهم فخسروها ولا أقول كسبوا المعرفة والثقافة لأنها ليست بديلا عن موهبة الشعر التي هي أعظم كنز يعثر عليه الإنسان في حياته ومن المؤسف حقا أن يبددها بهذه الطريقة أو بطرائق أخرى كثيرة.وعودة إلى سياق الموضوع نرى أن الشاعر الحقيقي هو الذي ينظر الى اللغة (مفردات وعلاقات) بطريقة أخرى ولا يهادن في ذلك إذ أن عليه دائما أن يقول كلاما مدهشا جديدا غريبا لم نسمعه من قبل.

.الشعر والكلام

إذ عدنا إلى تفريق (دي سوسير) الشهير بين اللغة باعتبارها نظاما اجتماعيا والكلام باعتباره إجراء فرديا داخل هذا النظام الاجتماعي فسنجد أن اللغة تسكن وتنطوي علي نفسها في الكتب والقواميس والقواعد اللغوية أما الكلام فيتحرك في الشارع والمعمل والبيت قويا نشطا.أما الشعر وهو إجراء فردي خاص داخل الكلام (الكلام هنا لا يعني اللهجة (  فمشكلته تكمن في أنه كان جزءا خاصا أو ذاتيا داخل الكلام وهكذا كان الشعر القديم أما الشعر الحديث فقد ظهر بعد أن ظهرت الطباعة التي أشاعت الكتاب والكتابة بين الناس وأصبح بالإمكان قراءة الشعر في كتاب وعدم سماعه وهكذا ظهرت الكتابة التي هيأت لظهور الشعر الحديث وبدأت تفصل الوظيفة السماعية للشعر عن نظامه.إننا هنا أمام مفارقة جديدة. الشعر القديم يرتبط بالكلام المحكي أو المسموع ولذلك ينتشر وفق تطابقه مع ذائقة الكلام المحكي في ذلك العصر ويحتجب عندما تختفي هذه الذائقة. والشعر الحديث يرتبط بالكلام المكتوب الذي يقلل عادة من أهمية تطابقه مع ذائقة الكلام الشائع في عصر معين، انه يحفر في مفصل الكتابة نفسها (اللغة وهي مكتوبة.(ويعد التحول في اعتماد الشعر على الكتابة أهم التحولات التي أدت فيما بعد إلى قلب وظيفة الشعر بكاملها وإلى تغير إستراتيجي في أهداف الشعر حتى أن الشعر الشعبي هو الذي حافظ على اتصاله بالكلام للتداول ولم يتصل بالكتابة (من حيث الجوهر) وبذلك أصبح هناك، دون قصد، نوعان من الشعر احدهما يبتكر نفسه ويجددها وينفعل بها من خلال الكتابة والآخر يعوم على سطوح اللغة أو الكلام بوصفه أحد أشكال تمفصلها مع المجتمع.إن الوظيفة السماعية (الإثارية) الجماعية للشعر القديم أو الشعر الشعبي تختلف كثيرا عن الوظيفة البصرية (العميقة) الفردية للشعر الحديث وبذلك نجد أنفسنا أمام تجنيس جديد يقضي باعتبار احد النمطين شعرا والآخر لا شعر وهنا تكمن خطورة جديدة تشيع أشكال تذوق وتبدل قد يطرح خارج المفهوم الأدبي نفسه في منطقة الصيرورة الإنسانية كلها .. أي من الأدب الى الوجود الإنساني ذاته.لم ينجز الأدب القديم نمطا جذريا ساخنا من الأدب بل عجل في تحولات أسلوبية كثيرة ناتجة في حقيقة الأمر عن الوعي الشقي للكتاب أمام عصور لا تستجيب لتفتح ذواتهم الفائرة العميقة القلقة .. ولم يكن نتاجهم ناتجا عن تبديل البنية الذهنية لهم بحيث تنتج بني أدب جديد.اللغة أفقية مشتركة بين الناس والأسلوب الكتابي عمودي يمثل داخل الكاتب واعماقه فاللغة إذن تاريخ علم نازح من الماضي أما الأسلوب الكتابي، الشعري الحديث فقفزة فردية داخل هذا التاريخ العام ومحاولة أو محاولات لزحزحة بنيانه وإنعاش تواتره الرتيب.التاريخ الأدبي القديم على هذا الأساس تاريخ بطئ مضجر تتقافز فيه تغيرات غير منهجية في المضامين والأشكال وفي الأجناس الأدبية أما التاريخ الأدبي الحديث فهو متسارع وهو ليس تاريخا تطوريا بل هو تاريخ خلقي ابتكاري لا يتناسل وفق السلالة ولذلك تبدو محاولات خلق آباء وأجداد وأصول في الأدب الحديث عملية إسقاط من الأدب القديم.. فالمبتكر في الأدب الحديث فرد لا أب له ولا ابن.. انه صانع وحسب أما منطق السلالات الذي أشاعه الأدب القديم فيبدو انه واحد من معوقات قوة ونهوض وجمال الأدب الحديث.تنشيط اللغة عن طريق الشعر
بعد أن يجهد البيريس (الناقد الفرنسي) نفسه كثيرا في إيجاد تعريف دقيق للشعر في ضوء خروجه الدائم عبر سياقات وبعد أن يقيم تعارضا حادا بين الشعر الذي هو المخاطرة دائما والنثر الذي هو ما يخاطر ضده دائما.بعد كل هذا ينتهي إلى القول بما يلي) إنما الشعري هو ما لا تستطيع اللغة التعبير عنه، وبذلك يصبح الشعر مخاتلة تمردا، نضالا ضد اللغة (.كيف إذن يمكن التوفيق بين الجملتين التاليتين (الشعر يعبر عنه باللغة) (الشعر هو التمرد ضد اللغة)؟ قد يكون مفهوم الانزياح الذي اقترحه كوهن نوعا من الحل ولكن حله هذا يفترض لغة قياسية (غير موجودة) يتم الانزياح عنها ليتكون الشعر ولان الكلام اليومي الذي نتداوله انزياح عن اللغة القياسية لذلك يمكن القول إن الانزياح يتداخل مع الانزياح الكلامي اليومي الاستهلاكي مما يشوش الصورة نوعا أو يفتح تلاقيا مخصبا بين الشعر كونه صبوة لغوية عالية وكلاما يوميا عاديا.. ولذلك يتراجع حل كوهن لاعتماده المطلق على الأنساق البلاغية (في القياس والانزياح) وتتقدم أمامنا اقتراحات جديدة لتعريف أو لمحاولة القبض علي تعريف الشعر.إن المشكلة القديمة البائسة التي تدور حول العلاقة بين الشكل والمضمون لا تشكل سوي محطة صغيرة يمكن أن نقف عندها لنغادر بعيدا فلقد دأبت الدراسات التقليدية للشعر على ترديد جملة (فقيرة وباهته) تقول بأنه لا يمكن فصل الشكل عن المضمون ثم أن الشعر هو ما يتعادل أو يتوازن فيه الشكل والمضمون وهو حل توفيقي سهل وبارد ولا يحتاج إلى عناء والحقيقة. هي أن عناصر الشكل معروفة ويمكن أن نحددها ونحدد وظائفها وكذلك يمكن أن نحدد عناصر المضمون ودراستها ولكن النثر والنثر الأدبي علي وجه التحديد هو الذي يفترض توازنا بين الشكل والمضمون. أما النثر العلمي فيغلب المضمون على الشكل لأن الشكل أداة لتوصيل المضمون الدقيق. لكن الشعر وحده هو الذي يتفرد بأرجحية الشكل على المضمون فالشكل يتقدم المضمون أهمية وبالشكل أولا يمكننا أن نقيس مدى تقدم أو تراجع القصيدة فنيا.إن الشكل هو الذي يحدد المسارات المضمونة للقصيدة وهو سيد الحركة والغاية التي تسعى لها القصيدة فكلها عتلات تجرها حركة الشكل القوية.إن خلع الطابع الشيئي للشكل الملموس للشكل يحدده أو يقيده بمضمون محدد أما حقيقة الأمر فهي أن الشكل يمثل منهجا نستطيع من خلاله القيام بعملية تمثيل لأي مضمون مهما كان.تتكون اللغة من عناصر ترتبط بنسق معين يجعل من اللغة شكلا لا جوهرا ولذلك يكون الشعر عملا أو شغلا في هذا النسق أي انه عمل في الصورة لا في الجوهر وهو لذلك شكل في الشكل أو ميتاشكل، وهو غير الشكل اللغوي ولذلك يحق لنا أن نسأل أين ذهب الجوهر إذن أين هو جوهر الشعر وكيف يتحقق؟ إن الجوهر موجود في العناصر لا بعدّها لغة بل بوصفها موجودات خارج اللغة (أشياء مدركات ..الخ) وهذا يتطابق مع الجوهر الفيزيائي المعروف فأين الجوهر الشعري لا الجوهر الفيزيائي ؟ أعتقد أنه في تحقق الموجودات بصورتها الشعرية، ولأن هذا يتحقق باحتمال ضعيف وينتمي إلى المستحيلات في عمومه لذلك يختبئ الجوهر الشعري في نفوسنا أشبه بالوهم الكامن الجميل الغريب المدهش. وهكذا بعد هذه الملاحقة يمكننا أن نقول بأن الجوهر الشعري يكمن في الشاعر لا في الواقع ولا في القصيدة وجوهر الشعر هذا بندول يترنح بين الشاعر وبين ما يكتبه أما متى يهدأ فهذا ما يستطيع عليه الموت وحده وأعني موت الشاعر.لقد قامت الكتابة باختزال اللغة وبقص ترهلاتها واستفاضاتها الشفاهية المعقدة ثم قام الأدب)داخل الكتابة) باختزال النمو السريع والمركب لأنسجة الكتابة وقام الشعر علي وجه التحديد بالدور الأخير .وهكذا يبدو لنا الأمر مثل هرم تفرز قاعدته العريضة اتجاها مستدقا نحو القمة والقاعدة العريضة هي اللغة. أما القمة فهي الشعر. إن الشكل الشعري يتوهج هناك باعتباره كتلة من الرموز والإشارات ويحاول أن يكون (ميتاشكل متعالي (للغة إن تنقية اللغة بهذه الطريقة وإحالتها إلى نسيج موسيقي إشاراتي هي محاولة تطهيرية لعقل الإنسان أيضا وضرب من التفتيت الدائم لكل الثوابت البلاغية وغير البلاغية التي تعتمدها اللغة.إن المحاولات المتكررة من الشعراء الكبار لإنجاز مستويات جديدة من الكتابة هي بالتأكيد المحاولات الوحيدة التي تنقذ الشعر من سقوطه المحتمل إذا ما نمِّط أو ظل محصورا بمستوى واحد. لذلك فإن القفز بالكتابة من مستوى إلى مستوى أعلى لا يعني فقط الرقي العقلي والروحي بل هو تشذيب للغة وهكذا يحول الشعر اللغة إلى نص مفتوح بل تتحول الآليات الشعرية إلى معاول لفتح الثغرات في جدار اللغة لكي تتنفس وتستمر في الحياة.إن نحت اللغة (عن طريق الشعر) لا يعني تقليل المفردات المستعملة في الشعر بل يعني غسيلا دائما للمفردات الثابتة المنهكة الاستعمال ثم يعني نقلا للمفردات المتكررة إلى سبل استعمال جديدة وحفزا للمفردات الجديدة للتداخل في اللغة السائدة وهكذا تنفتح اللغة وإذا ما انفتحت فإن العقل سيتفتح أيضا وتفتح الحياة كلها، لقد زاد الشعر سعة الحياة مثلما زاد سعة العقل وسعة اللغة وهذه هي وظيفته الأولى بامتياز.إذا كناقد استبعدنا الواقع أو ذات الشاعر بوصفها مقر تحقيق جوهر الشعر فلا بد لنا أن نقول بأن القصيدة هي شكل تحقيق هذا الجوهر، هي ظهوره. وهكذا تلعب اللغة دورا غير عادي في الشعر. فهي ليست مقابلات لفظية لأمور واقعية أو نفسية أو مشاعرية داخل وخارج الشاعر. وإن اللغة في الشعر ليست دالات لمدلولات نجدها في القاموس أو نجدها في انفعال ومشاعر الشاعر.. إنها هنا بالضبط كيان آخر مستقل، يقول جاكوبسن (ولكن كيف تتجلى الشاعرية؟ إنها تتجلى في كون الكلمة تدرك بوصفها كلمة وليست مجرد بديل عن الشيء المسمي ولا كانبثاق للانفعال وتتجلي في كون الكلمات وتركيبها ودلالتها وشكلها الخارجي والداخلي ليست مجرد أمارات مختلفة عن الواقع بل لها وزنها الخاص وقيمتها الخاصة). إن اللغة أساسا عالم مستقل عن الواقع، ولكن اللغة تقيم مع الواقع علاقة نفعية برغماتية كبيرة. أما الشعر فهو لغة مستقلة داخل اللغة ينفصل بخطوة واحدة عن اللغة وبخطوتين عن الواقع ولذلك فإن علاقته باللغة والواقع علاقة تضاد وجمال وعدم خضوع.إن الشعر هو انفراط اللغة والواقع من خيوطهما واشتباك خرزهما من جديد واقتراح انتظام آخر لهما.. لقد اندرج الشعر ضمن معطيات اللغة وأصبح عاديا لأنه لم يضع بينه وبينها مسافة وقد اندرج الشعر ضمن معطيات اللغة لأنه أراد أن ينسخ الواقع فكان جزءاً ميتا منه.إن الشعر بوصفه منطقة الخطر في الوعي ومنطقة الشرارة في اللغة والواقع يستعيد قوته الآن بطريقة فهم جديد قد تبعده عن ما كنا نسميه شعرا في الماضي حيث الوقت لا يسمح بإعطاء مثل هذه الوظيفة للشعر آنذاك.إن ما طرحناه هنا لا يمثل محاولة عزل الشعر عن الجمالية الواقع أو عن اللغة بل يؤكد على استقلالية الوظيفة للشعر من ناحية ويحاول أن يقدم خدمة كبيرة للغة والواقع معا لأن (تلوثهما) بالشعر سيتيح لهما إمكانية رائعة لنشاط جديد .. لحركة مغايرة.. لهزة في خلاياهما ولانبثاقة جديدة لهما يسعى الشعر إذن، في النتيجة، الى تنشيط اللغة والواقع لا الى الانعزال عنهما.
جريدة (الزمان)
العدد 1933
التاريخ 2004-10-5