الأربعاء، 22 يونيو 2011

خبز الصداقة ينضج في فرن الأيام

 خبز الصداقة ينضج في فرن الأيام


الى خزعل الماجدي كان عهدي عهدك بالهوى..

بقلم : علي عبد الأمير عجام

كان فتى كليتنا الوسيم، ابنها المثقف، رفع من قصة حب شخصية عادة ما تشهدها اروقة الجامعة تلك الايام الى مستوى من الرقة والشجن والامل، فجعل حبيبته رمزا ونشيد عاشقين تحول الى قصيدة حب عراقية من نوع فاتن.
كانت سعادتي لاتوصف حين دعاني وانا القادم الجديد الى جو الجامعة المفتوح لمشاركته غرفته الصغيرة في القسم الداخلي لكليتنا(الطب البيطري) والكائن بين منطقة من البساتين والانهار تعود اصلا لحقول كلية الزراعة التجريبية في ابي غريب، واثنى على "المشترك" الذي بيننا: الشعر ومحبة الموسيقى، مؤكدا انهما يكفيان للثقة، رغم "المختلف" الذي بيننا، هو كان مفتونا برامبو وانا مأخوذ بنيرودا وناظم حكمت.
غرفة صغيرة جمعتني الى خزعل الماجدي، لكنها موقد تنبعث من نيرانه السرية الاحلام والاغنيات والافكار والتوهجات الشخصية في مزيج كان اكبر من شكل القصيدة، واوسع حتى من آفاقها التعبيرية: ألم نخرج معا كمن مسهما جنون خاص الى طرق عاصفة ممطرة في ليل تهز ريحه الاشجار، كي نغني ونحن نشترك في زجاجة عرق صغيرة، غنى بشجن مشرق بالدمع: " كان عهدي عهدك بالهوى يا نعيش ســوا يا نموت سـوا...أحــلام وطـارت في الهوى" الفـالــــــــس الراقص من لحن عبد الوهاب لمونولج "أهون عليك".
كانت " احلام" في الاغنية التي اختارها الماجدي دامعا، هي كناية عن "احلام" الحقيقية: سيدة عمره وفاتنة ايامه.





فاغنر في "مدينة الثورة"
لم يكن خزعل الماجدي غير المنسجم مع نفسه وأيامه، صحيح انه كان مقذوفا بقوة الى المستقبل ويأمل تحقيق انتقالة فكرية واجتماعية له شخصيا ولعائلته الا انه لم يكن الا فخورا وهو يدعو اصدقاءه الى بيت العائلة البسيط في "مدينة الثورة". وصحيح ايضا ان الاصول الاجتماعية والاقتصادية لاهالي المدينة تتصل مع البيئة التقليدية للفئات المسحوقة غير ان التحولات الكبيرة التي عاشتها والبلاد عموما في سبعينيات القرن الماضي، حوّل ابناء المدينة، ومنهم خزعل الماجدي،الى منبع فكري وثقافي وسم بدفق موجاته الكثير من تيارات الابداع الادبي والفني والمعرفي في العراق.
في اواخر العام 1978،وبعد ان كان خزعل انهى دراسته اذ كان يسبقني بثلاث مراحل،دعاني وصديقنا المشترك الاخر والمعيد في قسم الامراض المعدية بكليتنا (د. خزعل ثجيل) لقضاء ظهيرة جمعة في بيته بمدينة الثورة، وكانت فسحة اخرى للمعرفة، فسحة للنغم الرفيع، روضة من طراز سري لا تصله الا ارواح عابرة لمآزق واقعها ومطباته.
تناقشنا فيما يصل سليم بركات بشعرأدونيس، قرأ لنا الماجدي فصلا من تجلياته الروحية الصرف التي وطد من خلالها مدخلا خاصا ونادرا في الشعر العراقي الى الاساطير والتمائم والايقونات التاريخية، والتي صارت لاحقا عماد مجموعته الاولى" اناشيد اسرافيل".
وبحسب تراكم مرجعياتي النقدية القائمة على اتصال حثيث مع "الواقعي" في الادب والفنون دخلت في نقاش مع خزعل عن معنى بنية شعرية قائمة على تنقية اللغة واقصائها ما امكن عن الواقع وتجلياته، رد الماجدي بان الشعر اصلا وقبل كل شيء عمل في اللغة واخلاص لجمالياتها، وهو توضيح بدا لي مثيرا لبلبلة هي في حقيقتها اشد صخبا تلك الايام من صخب حركة الانتقالات السياسية للبلاد نحو توطيد اركان نظام لا الحزب الواحد حسب، بل القائد الواحد، وهو ماكان سيفسد روحية جلستنا لوكنت مضيت في الحديث عنه.
كان الحل فرديا وشعريا على طريقة الماجدي، الحل هو الموسيقى، ومن سيصدق اليوم اننا في مدينة الثورة كنا ننصت بامعان لعمل فاغنر الصعب والمتدخل الالحان والرؤى: "ترستان وايزولده"؟
هذا يحيل الى اول عمل موسيقي" كلاسيكي" استمعت اليه مع الماجدي في غرفتنا الصغيرة المشتركة من خلال مسجّل كان باذخا في ايامه، وحمله خزعل جديدا من بيته كي يكون انيسنا ورفيقنا الثالث، وفيه استمعنا الى "حلاق اشبيلية" حد اننا حفظناها نغمة نغمة ولطالما بدأنا صباحات كثيرة على اشراقاتها، الم تكن "اشراقات" واحدة من مفرادات خزعل الاثيرة حينها؟
وبما ان خزعل الماجدي عرف بصداقة مؤثرة مع الشاعر المحب للنغم الرفيع فوزي كريم، فيبدو ان "جرثومة" ذلك الحب انتقلت اليه وبسبب قرابتي منه، أصبت انا ايضا بتلك العدوى الشافية!
وبالعودة الى جلستنا اياها في بيت الماجدي بمدينة الثورة، وكما كان الخلاف بيننا حول اثر السحري (الاسطوري) وملامح الواقعي في الشعر قد حلته الموسيقى، ازاحت اغنيات عبد الوهاب بعضا من الاثر "الثقيل" لالحان فاغنر وان كانت تصور قصيدة حب تقارب الاسطورة، وجاء صوت صاحب "الجندول" يتهادى، ملبيا دعوتي لخزعل بشيء من الحنين لايامنا الاولى في العام 1973 ويعلو النداء الشجي ذاته" كان عهدي عهدك بالهوى...


بيت يعيدني الى إيقاع الحياة البهي

كان الطريق من اربيل حيث وحدتي العسكرية الى بغداد يعني المرور بالمدخل الشمالي الشرقي للعاصمة العراقية، وفيه وتحديدا في منطقة «حي اور» كان بيت خزعل الماجدي، وكنت احرص قبل ان اصل الى بيتي، في اول ليلة لي في بغداد ضمن اجازاتي الدورية على المبيت في بيت صديقي، فهو خير من ينهي حولي جليد الوحشة الذي كان قد تغلغل في روحي وجسدي، هو بيت كنت اثق في قدرته على ان يعيدني الى ايقاع الحياة البهي، وهو تقليد حرصت على الاستمرار به منذ العام 1980 حتى العام 1982 حين قذفت بي رياح الحرب الى اقصى الجنوب. في تلك الليالي كنت اطلع صديقي على ما انشره من قصائد ومراجعات نقدية في مجلة « الثقافة» منها مقالتي عن مجوعته الشعرية الاولى، فيفرح مثلما كان يبتهج لنشري المواظب نقدا للموسيقى الغربية المعاصرة في مجلة» فنون» معتبرا ذلك حلا موضوعيا لازمة اغترابي الشخصية التي يسببها استمرار الحرب وضغوطها عليّ.
واصلت تقليد زيارته وان بدرجة اقل وبشكل مغاير حتى بعد زواجي، فكنت اصطحب ذكرى للسهر في بيت الماجدي، والمبيت بعد ان تأخذنا الليالي الى سحرها المتأتي من مزيج الشعر والموسيقى واحاديثي الشخصية عن آلامي في الحرب التي لا تقلل وحشتها الا السيدة «أحلام» الغالية بكرمها ولطف ترحابها الغامر: لا انسى كيف اعتصر قلب خزعل حين كنت وزوجتي اسهر في بيته في الحادي عشر من آذار 1985 حين دعا بيان للقيادة العسكرية الى عودة جميع الضباط والجنود المجازين من الوحدات الموزعة على قاطع الفيلق الخامس بين العمارة والبصرة، عودتهم الى وحداتهم بسبب اندلاع معركة ستكون واحدة من اعنف المعارك في تاريخ الحرب العراقية- الايرانية وسميت حينها « تاج المعارك»، وهو ما كان يعني عودتي الى وحدتي وقطع اجازتي الدورية.
خرجت حزينا تلك الليلة وندى قبلات «ثريا» ابنة خزعل وصديقي الجميل الصغير حينها «مروان» ابنه الذي سيصير جرحا مفتوحا يختصر جروح البلاد، يبلل وجهي الذي ستلفحه حرائق المعركة ونيرانها.
مجتزأ من مقال مطول

جريدة "الصباح" /ملف خاص عن خزعل الماجدي
22/06/2011