الأربعاء، 22 يونيو 2011

خزعل الماجدي : الدور التنويري للأدب والشعر في العراق



خزعل الماجدي : الدور التنويري للأدب والشعر في العراق يتراجع تمهيداً لسيادة أدب الظلام

أجرى الحوار- كاظم حسوني

خزعل الماجدي... من ابرز فرسان الجيل الشعري السبعيني في العراق، رؤاه الجذرية في الشعر جعلته شيخ طريقة شعرية لها مناصروها، لكن الشعر قاده الى عوالم الاسطورة والتاريخ القديم ليكون باحثاً بارزاً في هذا الشأن، تشهد على ذلك كتبه التي بلغت العشرات حاملة الجديد والمبتكر، اضافة الى ذلك فهو كاتب مسرحي ومؤرشف للسينما العراقية، نطاق بحث واسع واشتغالات كثيرة كانت محور اسئلة حوارنا معه في هذا العدد من (ادب وثقافة) المخصص لتجربته.


* يفهم المتلقي،من خلال موشور الرؤيا في قصائدك، روحاً عارفةً مضمخة بعبارات الفلاسفة والصوفيين...... ما قولك؟

- ربما أظهر لك الموشور أيضا عدة ألوان في شعري، فقد رسّخت أكثر من لون في تجاربي الشعرية مثل القصيدة الرؤيا وقصيدة الصورة وقصيدة الومضة وهناك أيضا الشعر الإيروسي والشعر الغنوصي والشعر الشرقي، هناك من ناحية أخرى اهتمام بالجسد واهتمام اخر بالروح وهناك الهم العراقي اليومي، هناك الأسطورة وهناك التصوف وهناك الروح الرافدينية ولمسات من العصور الوسطى، هناك البند والدوبيت والحواريات والتعاويذ والرقى والبلبال والآثار الشعبية والنص المفتوح وغير ذلك كثير، ستظلمني كثيرا اذا قلت ان شعري مضمخ بعبارات الفلاسفة والصوفيين، لأن نصوصي هي أقوالي أنا وليست مضمخة بعبارات الآخرين، ثم أني شاعرٌ في أكثر من اتجاه.

* ماذا تسمي كل هذا التنوع في شعرك، وماعلاقة ذلك بديمومتك واستمرارك؟

- منذ زمن بعيد.. ربما يعود الى بداية الثمانينات وجدت أن علىّ أن أعبر عن شخصيتي كشاعر بكل حرية وصراحة بروح شعرية واحدة ولكن بعدة طرق وأساليب، ومنذ ذلك التاريخ حافظت على التنوع في شعري مع الحفاظ على التفرد الروحي والنفسي وهو ببساطة أن تكون أنت ولست سواك، وان تبوح بما فيك وليس بما في شعر الآخرين، هذا من ناحية. أما التنوع فيأتي من تعدد الأساليب والطرق الشعرية التي يوفرها لك تاريخ الشعر من جهة وأساليبك الخاصة من جهة أخرى، وفي الحالين ستعبر عن أساليبك انت لأنك حافظت على وحدة روحك ونفسك.
الكثير من الشعراء خلط بين الشخصية الشعرية والأسلوب الشعري وأصابه الجمود والمراوحة في أسلوب واحد ظناً منه أنه سيفقد شخصيته الشعرية، الشخصية الشعرية هي أنت أما الأساليب الشعرية في أدواتك في إظهار هذه الشخصية.
التنوع الأسلوبي هو الذي حافظ على ديمومتي الشعرية وعلى استمراريتي بقوة ودون انقطاع ولو أنني تمترست داخل أسلوب واحد عرفت به لكان ذلك سببا في سجني وضعفي، لكني تداركت ذلك بسرعة؟

* كيف تداركته، ومن أوحى لك بذلك؟

- مراقبتي للشعراء الذين سبقوني (من الخمسينيين والستينيين بشكل خاص)والذين كان لهم أسلوب واحد مميز، رأيت كيف ذبلوا مع الوقت وكيف أصبح أسلوبهم الواحد ضيقا عليهم لكنهم لم يغادروه ظنا منهم أنهم سيفقدون شخصيتهم الشعرية. فقررت أن لاأنتهي الى ما انتهوا اليه وان أجدد شعري بأساليب مختلفة، وأظنني قد فعلتها بطريقة جيدة.

* : إلى اي مدى يرتبط الشعر بالفلسفة والمقدس في تجربتكم الشعرية؟

- في العقل الشعري ناقشت ذلك بإفاضة وتوسع ارتباط الشعر بالفلسفة والدين، بالعقل والمقدّس، الثلاثة (الديني والفلسفي والشعري) حقول مختلفة، لكنها متجاورة يمكن ان تستفيد من بعضها، زعمت في كتابي ان الشعري هو الأقدم والأشمل ثم يأتي الديني بعده ثم الفلسفي، وقد استطاع الديني أن يجمع في ثناياه تاريخ الروح أكثر من غيره ولذلك فهو الحقل الثري والخصب الذي يمكن للشعر الاغتناء منه والنهل منه.
حاولت في تجربتي الشعرية أن أرحل الى حقول المقدس وأنهل منه، ولذلك ترى تجربتي الشعرية وقد تخصّبت بالمقدس كثيرا، وهذا لايعني اني ابتعدت عن المدنس و الإيروسي فقد كان أيضا أحد حقول اهتمامي، أما الفلسفي فقد أفادني كثيرا في الرؤيا الكلية للعالم والإنسان على أن امكانية الإستفادة النصية منه محدودة جدا، رغم أن الجانب العرفاني (الغنوصي) في الفلسفة والدين كان وعاءً لهذه الرؤيا ومحفزاّ مهماً.
المقدّس والإيروسي هما الحقلان الواسعان المحيطان المخصّبان لتجربتي الشعرية.

* المتابع لتجربتكم يرى اهتمامك بالمستوى الصوفي الذي يرشح معاني ورؤى مفضية الى الحكمة، وكلماتك تنطلق من ضيق الى اتساع، الى اين تتجه؟ وهل هذا يؤثر على البناء الداخلي للنص؟
- هذا ماقصدته بالجانب العرفاني الذي هو يشتمل على التصوف ايضا، التصوف جزء من الروح العرفاني الذي انتمي له لا كبناء أديولوجي بل كروح شعري يضم الوجود والإنسان معاً.
للأسف الشديد استفاد الشعراء بطريقة انتهازية من النثر الصوفي بشكل خاص وأهملوا الرؤيا الصوفية العرفانية وتصورها لوحدة الوجود التي لايمكن بدونها استيعاب تجربتهم كاملة، الأمر العملي في الصوفية هو الذي بحاجة الى مراجعة من قبل الشعراء لأنه يرى الشر في الجسد وهو ما لا أتفق فيه مع الصوفية لذلك أجنح هنا نحو مفهوم عرفاني أشمل وأعمق يرى في الجسد خيرا وجزءا من العالم الحي.
احاول تقديم رؤية عرفانية في جانب كبير من تجربتي الشعرية، وتظل الصوفية أسراراً مثل ينابيع سريّة في تجربتي.

* قصيدتك تسعى لخلق عالم تسري فيه الميتافيزيقيا والمقدس، عبر اشعاعات كلمات وما يكمن فيها من أفكار، أيمثل هذا معراجاً للروح؟وللذات العليا؟

- معراج الروح بالضبط هو شأن عرفاني صوفي، قصدت بذلك أن يكون الشعر حاضنة كبرى للمقدس والفلسفي. ربما تكون هذه أمنية كل شاعر، لكن اعتقد ان من يسعى لها باجتهاد ووضوح وبمعرفة فانه سيصل.
دعني اقول لك ان العرفانية أصبحت غريبةً و لم يعد الدين ولا الفلسفة يستوعبانها والأجدر بالشعر أن يفعل ذلك وقد كان هذا محور دعوتي في موضوع (الشعر الغنوصي) الذي نشرته في كتابي (العقل الشعري).

* كيف يكون ذلك؟

- إن الشعرَ يستحقُ العالمَ الغنوصي بامتياز فبعد أن كانت الأسطورةُ مستودعَ الغنوصِ ثم صارت الفلسفةُ الشرقيةُ مستودعَه، لابد أن نشهر الشعر مستودعاً للغنوص، دون حرج، لأنهما متماثلان (الشعر) و (الغنوص) ولكن الشعر لا يقبل في هيكله الغنوص الديني والفلسفي كلّه، وكما هو، بل سيجري عليه التحويرات والتعديلات اللازمة لمجانسته مع حرية وفضاء الشعر.
يختلف الشاعر عن الغنوصي في أنه لا يدّعي امتلاك القدرات الخارقة، بل ربما كان الشاعر هو الأكثر من غيره شعوراً بالضعف الإنساني وبحماقة المصير والتباس القوى ولا طاقةَ له سوى طاقة الفكر والخيال فهو كائن هشٌّ ضعيفٌ ارتبطت به تهمة حلّ مشكلات العالم عن طريق اللغة، ولكنه في حقيقة الأمر ليس كذلك فهو يحاولون وصف مناطق الضعف والارتفاع والأماني فيه، فهو ليس كالغنوصي الذي يشعر عن قناعةٍ أنه جزءٌ من الروح الإلهي وأنه العارفُ الوحيدُ بأسرارِ الكونِ.

*هل يطلب الشاعر الغنوصي الخلود؟

- كلا..الخلود الجسدي مستحيل، لكنّ بقاء كلماته وأسئلته تعوِّضُ قليلاً عن هزيمة الفناء الكلية هذه. ربما يفكر الشاعر الغنوصي، بتاثير عوامل دينية، بالخلود الروحي أو الانتماء الى العالم الآخر ولكن هذا يقع خارج غنوص الشعر ويدخل في غنوص الدين وربما غنوص المعرفة.
هل يطلب الشاعر الغنوصي العودة الى النشأة الأولى؟، نعم من الناحية النظرية ولأجلٍ بسيط، وكلاّ.. لأنه لا سبيل الى ذلك وليس في العالم الحالي متسع لذلك.. لكنّ ذاكرةَ العالمِ فيها هذه النشأة فهو يحاول التطلع إليها بانتشاءٍ، لا بحسرةٍ، أملاً في العودة، وقد تمثل الطفولة عودةً متوازيةً مع العودة الى النشأة الأولى.

* هل يطلب الشاعر الغنوصي الخلاص؟

- نعم .. عن طريق الشعر فقط، الخلاص أثناء الحياة من كلِّ قبيحٍ وشريرٍ ورتيبٍ، وليس خلاصاً كلياً معولاً عليه، بنقل الإنسان الى عالم البراءة الأولى أو عالم الآخرة القادم.

* لماذا إذن طريق المعاد الذي يرسمه؟
- لأنه يساهم في تجليةِ أغوارهِ وطبقاتهِ الروحيةِ والجسديةِ ويزيد من سعة تصوره للعالم والكون.. إنه طريق الرقيّ بالذات لا طريق رمي الذات في مجاهيل المطلق الكوني.
أول خطوات الشاعر الغنوصي تبدأ من جسده حيث يشعرُ بأن هذا الجسد هو كتلةٌ محتشدةٌ بقوى الكون كلها وبمقادير مشفّرة وأن على نفسه سبر أغوار هذا الجسد أما روحه فعليها سبر أغوار العالم والكون الذي هو فيه.
ومن تخصيب النفس والروح بعمليات السبر هذه يزداد الجسدُ تخصّباً وتصبح غايةُ رحلة الغنوصيّ الشاعر الأساسية هي كيف يحوّل كلّ سعادته هذه الى كلمات ينقل فيها التجربة الفريدة،التي عاشها هو كفردٍ، الى مجتمعه البشري.
لماذا لا نفهم أن الجسد البشري كان على صلةٍ، ذات يوم، بعالم النبات والحيوان والمعادن؟ وكيف يحق لنا إهمال الجسد والوجه اللذين هما علامة تفّردنا.
إن الغنوصية الشعرية هي غنوصية جسدية لا تقف ضد الجسد ولا تجعله في تضاد ثنائي مع الروح بل هي تبتكر ثنائيةً جديدةً لعلّها الأقرب الى التصور الآتي (الجسد / الإنسان) إن تلازم الروح والجسد يعطي للجسد بعداً رمزياً أما انفصال الروح عن الجسد (في الغنوصية القديمة أو في الموت) فيجعل من الجسد مجرد آلة أو كتلة من اللحم.

* ما مدى تاثير كتاباتك في المثيولوجيا، والديانات القديمة والمسرح والفلسفة، على كينونة القصيدة وهل صغت سؤالك المعرفي بالشعر لانه برايك أصل المعارف ام بمؤلفاتك الاخرى؟

- تأثيرها كبير جداً واستطيع أن أجعلها سبباً آخر في ديمومتي واستمراري وتنوعي، أعطتني الأساطير والمثولوجيا أدوات مهمة لصنع أسطورتي الخاصة، فالشاعر الحقيقي هو الذي يصنع أسطورته الشخصية،والأساطير العامة وخصوصاً للشعب الذي ينتمي له تعمل على مساعدته على ذلك لأنها مازالت تحتفظ بالنويات الجوهرية التي يمكن منها أن نبني الأسطورة الشخصية للشاعر بالتوافق مع تجاربه وخواصه ومدركاته ومذاقه.أساطير وادي الرافدين ليست ككل الأساطير في العالم بل هي الأساطير الأم للعالم والمؤسسة للاشعور الجمعي البدئي الأول للبشرية، ومن امتيازات الشاعر العراقي أنه ينحدر منها أو ينتمي لها مباشرة،ولذلك يساعد الوعي بها على هندسة الأسطورة الشخصية للشاعر العراقي (أذا أراد ذلك) والتي أؤمن بأهميتها الكبيرة.
المسرح هو الآخر منحني الكثير كشاعر فمنذ دخلت في عالمه تبدّل شعري وأصبحت أشد ميلاً للواقع وللصراع والدراما في الشعر.
أما عن سؤالي الخاص بأن الشعر هو أصل المعرفيّ فقد صغته بوضوح في (العقل الشعري) حيث أن العقل الشعري هو أول العقول وهو سبب الإبداع في كل العقول الأخرى لأنه يكمن فيها.

* خزائيل نص يعد من النصوص المفتوحة تداخلت فيه فنون الدراما والخرافة والسرد والشعر،أكان الدافع ايجاد ثورة في الشكل النصي؟

- بالتأكيد.. هذا النص هو أول نص شعري مفتوح عراقياً، وهو شعر عرفاني يغور في الأعماق الخفية ومواطن الأسرار والأركيتايب (النماذج البدئية) وقد كتبته في مطلع الثمانينات من القرن الماضي وكان في وقته ثورة على الأشكال الشعرية،بل شكّل انعطافة في تاريخ الشعر العراقي لأن ظهوره كان هدما للتابو الذي كان موضوعا على قصيدة النثر خاصة والكتابة الشعرية من خلال النثر عامة. وأرجو أن تلاحظ بأن انتعاش وشيوع قصيدة النثر في العراق أولا ثم في الوطن العربي جاء بعد نشر (خزائيل) ومارافق ذلك من مماحكات حول هذا النص الإشكالي.

* هل ظهر العمل كله وقتها، أعني خزائيل؟
- لا, لم يظهر منه سوى كتابين وبعض من الكتاب الثالث من العمل المكون من 12 كتاباً، والذي سأنشره الآن كاملاً حيث يكون المجلد الرابع من الأعمال الشعرية لي والتي صدر منها ثلاثة، لكن مانشر منه، في حينها، جاء بنتائج كبيرة جداً فقد تزحزحت ذائقة كاملة ووعي مقيد بكيفية كتابة الشعر. أشعر الآن كما لو أن العمل كان تحديا ً سافراّ للسائد الشعري آنذاك بوجهه الحديث الرتيب والوجه الآخر الذي صنعته سلطة وقصائد الحروب المديح والاستجداء, أعتقد أن توقيت ظهور العمل كان مهما وقد كان ظهوره ملهما لجيلين من الشعراء في وقتها.

* شهدنا ظهور عمل شعري كبير لك الآن هو (أحزان السنة العراقية) وقد نشر العمل الآن كاملاً في بيروت / دار الغاوون ماذا يمثل لك هذا العمل؟

- ربما أعده أكبر أعمالي الشعرية وفيه خلاصة تجربتي الشعرية من حيث اطلالتها بالألم على بلادي الجريح والمنتهك بكل ماهو قبيح وشرير، أهمية العمل أنه كان تحدياً كبيرا لي كشاعر تمرس في الجماليات الشعرية ثم جرجرته الأيام ليكون وسط ألم مركب من دمار بلدي وانا فيه وخطف ولدي فكان عليّ أنأشحذ قواي وأكتب تراجيديا شعرية بهذا الحجم والنوع، فهو يرصد احداث أخطر سنة في تاريخ العراق المعاصر وهي 2006 التي وضع فيها على حافة حرب أهلية وعم القتل والخراب والدمار كل مكان وعانيت فيها أنا وأسرتي ومن الغريب أن هذه السنة مقسومة الى نصفين الأول شهدت فيها المأساة داخل العراق ونصفها الثاني عانيت ماعاناه كل مهاجر الى المنفى من مخاطر وغربة وحاجة وخوف، فهي تمثل معاناة العراقي في الخارج والداخل. لقد تقصيت أيام 2006 يوما بيوم على الروزنامة وكتبت 365 قصيدة بمايشبه الروزنامة الشعرية في حوالي 900 صفحة.

* كذلك نشهد الآن ظهور المجلد الأول من الأعمال المسرحية لك فهل هناك مجلد آخر؟

- نعم هناك المجلد الثاني والثالث سيظهران تباعاً وهاهي تجربتي المسرحية تنمو لتوازي تجربتي الشعرية، وأنا سعيد بها حقاً وأتمنى أن تدوم. فضلا عن وجود أعمال مسرحية جديدة لي ستظهر في بغداد والعواصم العربية وفي أوربا فقد ترجمت بعض أعمال وهي تهيئ الآن للظهور على المسارح الغربية بعد أن ظهرت (هاملت بلا هاملت) باخراج احد أكبر المخرجين الفرنسيين وهو ميشيل سيردا، هناك الان عواصم اوربية جديدة تمثل أعمالي .

* ما قراءتكم لمستقبل الشعرية العراقية بناء على المتغيرات الحاصلة والتي تحصل الان؟

- الشعرية العراقية انتكست مع بداية القرن الجديد وبعد 2003فقد ظهرت دعوات سطحية لإعادة الشعر العمودي وهي ردة كانت قد بدأت مع النظام السابق يوم حاولوا اشاعة الشعر العمودي وقصائد الحرب والاستجداء والمديح، وأكثر شيء يحزنني أن العراق الذي بدأت منه ثورات التجديد العربية والإقليمية في كل العقود السابقة بدءا من الرواد وقصيدة التفعيلة ومرورا بجيل الستينات المتمرد والسبعينات المؤسس لجماليات وأعماق وأشكال جديدة والثمانينات الذي وسع أفق قصيدة النثر والتسعينات الذي احتضن هذه التقاليد وأضاف لها، للأسف شهدنا نكوصاً وتراجعا تزامن مع هيمنة الإسلام السياسي المعروف بكرهه للأدب عموما والشعر خصوصاً ولمحنا بعض الأدباء ينخرطون في هذه الموجة ويتحولون الى تابعين للسياسي المتدين أو لرجل الدين وهذه أكبر كارثة حلّت بالأدب العراقي لأن الدور التنويري للأدب والشعر يتراجع تمهيداً لسيادة أدب الظلام.
أكثر ما أخشاه أن تضعف إرادة الشعراء الذين أسسوا لتقاليد الحداثة وخصوصاً من كان منهم موجوداً داخل العراق وأن يسدل الستار على واحدة من أعظم صفحات الشعر العراقي والعربي بل والإنساني، ولعله ممايزيد من تشاؤمي هو سيل النصوص(الشعرية) الهابطة الذي تنشره المواقع الألكترونية والمجلات والصحف الكثيرة على أنه شعر،وهناك الكثيرون الذين يساهمون في هذه اللعبة الخطرة دون إحساس بالمسؤولية، وفي ظروف هيمنة الذوق السلفي أو الذوق الركيك , هذه المخاوف أصبحت الأن جدية أكثر.
وما أسمع عنه في العراق من حركة شعرية لايسر كثيراً رغم وجود مواهب فردية هنا وهناك ولكني أعرف تماماً أن هذا لايكفي، فقد تكون هذه آخر الرعشات لموت قادم مؤكد.
* ما حكاية اكتشافكم للحضارة السوبرية؟

- قادتني بحوثي وقراءتي المتعمقة لتاريخ وحضارات وادي الرافدين القديمة الى نتائج جديدة كثيرة خصوصاً مايتعلق منها بأصول الشعوب الحضارية الأولى التي ظهرت أصولها في وادي الرافدين ثم هاجرت الى الجهات الأربع حول العراق وحملت معها ماتراكم من المنجزات الحضارية في العراق، وأزعم اليوم أن العراق القديم كان البؤرة الحضارية الوحيدة التي نشرت الحضارة حولها في تلك الأزمان القديمة، فقد كانت هناك حضارتان أصيلتان خارجها هما الحضارة المصرية التي كانت مغلقة على نفسها بسبب عدم تحولها الى امبراطورية الاّ في عصور متأخرة وقد كانت امبراطورية صغيرة جدا وبسبب كتابتها المقدسة التي كانت حكرا على رجال الدين فقط، والحضارة الصينية التي كانت ايضا حضارة مغلقة على نفسها. الحضارات العراقية كانت سيولاً من الأنهار الثقافية والمعرفية التي غطت العالم القديم كله من الصين الى الأطلسي ومن أوربا الى أقصى أفريقيا وجزيرة العرب، وهناك من يرى أنها وصلت الى أميركا.
لقد دعاني هذا الى إعادة النظر في أصول تلك الحضارات العراقية وشعوبها القديم وقد توصلت الى نتائج باهرة سأعلنها تباعاً، فقد كانت هناك أكثر من حضارة سبقت أو زامنت الحضارة السومرية، ومنها الحضارة السوبرية التي هي الجذر الأقدم لحضارة عبادة الشمس في وادي الرافدين وفي وادي النيل، والتي أسست مدن النصف الشمالي الشمسية من شمال وادي الرافدين،وكذلك الحضارة الأمورية التي سبقت حضارة سومر وكانت أساس حضارة العبيد وشملت مدن الجنوب والغرب في وادي الرافدين وهاناك حضارت أخرى. وقد وقفت بوجه النظرية الفاشلة التي تقول أن الساميين جاؤوا من جزيرة العرب الى العراق وأثبت أن العراق هو الوطن الأول للسامين ومنه هاجروا الى كل العالم ومنها جزيرة العرب.
الموضوع أكبر من يستوعبه حوار لكني أعمل الآن على ظهور كتب موسعة في هّا الشأن سترى النور قريباً وستقلب وجهات النظر المعروفة في تاريخ حضارات وادي الرافدين والعالم القديم.

* وهل كانت الحضارة السوبرية منافسة للسومرية؟

- نعم وبشدة، بل أن أول ظهور للكتابة في التريخ ظهر بالتزامن في موقعين أحدهما سومري(أوروك) والآخر سوبري هو (كيش)، وكذلك كانت مدن سوبر وسومر وآمور وحضارة رابعة (لن أكشف عن اسمها الان) تتنافس بشدة في كل الحقول، وكان هذا التنافس إيجابياً وهو السبب في ظهور هذه الحزمة العجيبة من حضارات العراق آنذاك.

* ولماذا لم يلتفت لها أحد من الآثاريين؟

- المكتشف من آثار العراق لايتعدى 3% من آثاره،ولو قُيض للكشوفات الآثارية في العراق أن تاخذ مجراها وبأسلوب علمي عالمي لتغير وجه التاريخ كله، والآثاريون عملوا مابوسعهم لكن جمع وترتيب وتفسير وضبط الكشوفات الآثارية وتحويلها الى تاريخ كرونولوجي وأحداث ومادة حضارية هو من شأن المؤرخين ومتخصصي علم الحضارة الذين نفتقر لهم في العراق، وبالرغم من الفضل العظيم للآثاريين والمؤرخين الأجانب لكننا بحاجة للعراقي الذي يعرف البلد واللغة واللهجات والأرض والمدن والعادات فهو الأكثر قدرة على وضع صورة حقيقية للتاريخ والحضارات العراقية وهذا مافعله تحديدا طه باقر والدكتور سامي سعيد الأحمد، وقد أديا دورهما بشكل رائع لكننا، اليوم، بحاجة الى أجيال جديدة من المؤرخين والمختصين بتاريح وحضارات وادي الرافدين حصرا تعيد مناقشة البديهيات التي رسخت وتكتب تاريخاً أنضج لهذا البلد العظيم.

جريدة الصباح/ملف خاص عن خزعل الماجدي
22/06/2011