البيان الشعري الخامس
النص المفتوح*
(سينوغرافيا الفضاء الشعري)
(سينوغرافيا الفضاء الشعري)
خزعل الماجدي
إنك تقرأ إلاعلانات والفهارس
والملصقات التي تغني بصوتٍ عالٍ
هذا هو الشعر هذا الصباح
(أبولونيير)
والملصقات التي تغني بصوتٍ عالٍ
هذا هو الشعر هذا الصباح
(أبولونيير)
أنجزت الشعرية العربية الحديثة،في نصف قرن، ثلاثة أجناس شعرية جديدة استطاعت إن تستوعب الحاجة الفنية والروحية للشاعر العربي المعاصر إضافة إلى نقلها الشعر العربي إلى آفاق جديدة لم تكن في الحسبان أبداً. فقد ظهرت (قصيدة التفعيلة) في نهاية الأربعينات من القرن العشرين ثم ظهرت (قصيدة النثر) في نهاية الخمسينات ثم ظهر (النص المفتوح) في نهاية السبعينات ومازالت هذه الاجناس الشعرية الثلاثة تمارس حضوراً نوعياً، لكن الزمن مازال يمضي لصالح قصيدة النثر مازال اغواؤها قوياً ولم تستنفذ طاقتها بعد، اما النص المفتوح فمازال يسير بطيئاً ورببما باتجاه نحو الباطن بينما قصيدة النثرتحتل السطح كله.ويبدو من الحقائق التي نراقبها ان النص المفتوح لم يعد منافساً لقصائد التفعيلة والنثر بل هو نمط خاص يميل الى ان يكون ذوقياً لا تكتبه الانخبة خاصة تستجيب، عادة، الى نداء الاعماق وتتحلى بقدر كبير من المثابرة والصبر اللذين لا يتوفران، في الغالب، عند الشعراء الجامحين المتوثبين دائماً لاعلان احتجاجهم واضطرابهم وتوترهم امام العالم.
إن النص المفتوح يحتاج إلى قدر كبير من شخصية السارد الملحمي والمعرفي. انه جنس شعري يتخذ من الكتابة فعلاً شعرياً مغامراً يقف بوجه متون السرد والدراما والمعرفة الحديثة منافساً لها قدر انطلاقه من ارض الشعر، انه مصالحة الشعر مع المتون ثم تطويقها او تفخيخها بنيران الشعر.
في الادب العالمي ظهر المفتوح من تطور قصيدة النثر الإشراقية التي حررت نفسها من الزمن واستطالت لتكوّن لها فضاءً سردياً درامياً معرفياً ظل الشعر يغذيه بنسغه الصاعد ابداً من جذور قديمة وجديدة تجد ابعد طبقاتها في الشعر الملحمي القديم. ولعلنا لا نبالغ اذا قلنا ان (أناشيد مالدرورو) للشاعر الفرنسي لوتريامون هي أول نص مفتوح محكم رغم ان لوتريامون لم يكن يعرف ماذا يسميه، لكن النص المفتوح وجد حاضنته الحقيقية مع الشاعر الفرنسي سان جون بيرس الذي جعل من (أناباز) و(ضيفة هي المراكب) انموذجين مهمين للنص المفتوح رغم ان (ضيقة هذا المركب) تكون النشيد التاسع والاخير من عمل شعري طويل هو بحد ذاته نص مفتوح نموذجي. وقد ظهرت في أوربا وامريكا اعمال كثيرة من هذا الجنس الكتابي لم يكن يطلق عليهم شعراء بالضرورة بل كانوا يسمون ب(النصوصيون).
في الادب العالمي ظهر المفتوح من تطور قصيدة النثر الإشراقية التي حررت نفسها من الزمن واستطالت لتكوّن لها فضاءً سردياً درامياً معرفياً ظل الشعر يغذيه بنسغه الصاعد ابداً من جذور قديمة وجديدة تجد ابعد طبقاتها في الشعر الملحمي القديم. ولعلنا لا نبالغ اذا قلنا ان (أناشيد مالدرورو) للشاعر الفرنسي لوتريامون هي أول نص مفتوح محكم رغم ان لوتريامون لم يكن يعرف ماذا يسميه، لكن النص المفتوح وجد حاضنته الحقيقية مع الشاعر الفرنسي سان جون بيرس الذي جعل من (أناباز) و(ضيفة هي المراكب) انموذجين مهمين للنص المفتوح رغم ان (ضيقة هذا المركب) تكون النشيد التاسع والاخير من عمل شعري طويل هو بحد ذاته نص مفتوح نموذجي. وقد ظهرت في أوربا وامريكا اعمال كثيرة من هذا الجنس الكتابي لم يكن يطلق عليهم شعراء بالضرورة بل كانوا يسمون ب(النصوصيون).
أما عربياً فإن (مفرد بصيغة الجمع) لادونيس 1977 تمثل بداية أولية لهذا النمط رغم أن شُعريرات النص المفتوح قد تكون ظاهرة في نصوص اخرى سابقة، ثم كتب سليم بركات ( الجمهرات ) و ( الكراكي ).. وظل النص المفتوح يراوح ببطء في بداية الثمانينات حتى تصدّت نخبة من جيل السبعينات في العراق لتوسيع مديات وانواع النصوص المفتوحة فظهرت أولاً (خزائيل) لخزعل الماجدي التي غاصت باطنياً بالنص المفتوح وانتجت نوعاً من الشعر الغنوصي ثم ظهرت اعمال زاهر الجيزاني (اغنية الاله مردوخ) و(شاحنة البطيخ) ثم توالت اعمال اخرى مثل( عكازة رامبو ) و ( حية ودرج ) و ( خيط العبور ) وغيرها.
في مقابل النصوص الشعرية المفتوحة كانت هناك نصوص نظرية حول النص المفتوح فقد اطلق عليها ادونيس اسم (الكتابة الجديدة) وحاول محمد بنيس ان يلامس هذا الموضوع في (بيان الكتابة) وشكلت افتتاحية مجلة (تحولات) مقترباً نظرياً من النص المفتوح حين اسمته (اللاشكل الشعري) في حين اسمته افتتاحية مجلة (الاخير اولاً) ب(قصيدة سرد)، وكل هذه الكتابات النظرية كانت تشير ضمنياً الى ( النص المفتوح ) لكنها لم تسمه صراحة رغم ان هذه التسمية شاعت في الدوريات الادبية ورغم رسوخها في الادب الغربي بشكل خاص.
هذا البيان يحاول ان يطرح وجهة نظرنا حول (النص المفتوح) بعد ان انجزنا نصوصاص عديدة بعد (خزائيل) هي مادة المجلد الرابع من اعمالنا الشعرية: (عكازة رامبو، حية ودرج، خيط العبور، حمام النساء في كركو، فلم طويل جداً). وهي نصوص مفتوحة كتبت على فترات متباينة، وكان من الممكن ان يظهر هذا البيان في بداية التسعينات (وهو وقت كتابتنا له) لكن ظروف النشر حالت دون ذلك، وقد اتاح لنا ذلك فرصة مراجعة هذا البيان واضافة ما هو ضروري له.
الفرق بين قصيدة النثر والنص المفتوح
ربما، بسبب نثرية الاثنين (قصيدة النثر والنص المفتوح) لا يفرق الكثيرون بينهما وربما لأسباب أخرى منها الاستهانة بأجناسية الاثنين معاً وعدم الاعتراف بهما احياناً.
ان كتابة الشعر عن طريق النثر وهو ما اسميناه، ذات يوم (الشعر في النثر) يعني على وجه التحديد كتابة الشعر بواسطة النثر وبدون مساند عروضية ودون قافية هذا اولاً، ثم يتبع ذلك التخفيف من الركائز البلاغية التقليدية كالتشبيه والاستعارة والفصاحة واللجوء الى الكناية الجزئية او الشاملة والى وسائل بلاغية جديدة كالتكرار والتوازي والمفارقة وغيرها. ان ما تشترك به قصيدة النثر والنص المفتوح هو جعلهما النثر وسلة للوصول الى شعرية جديدة. هذه الشعرية، هي في جميع الاحوال، مختلفة عن كل ما كانت تثيره قصيدة العروض (العمودية والتفعيلة). هذا هو الشيء المشترك الوحيد بين قصيدة النثر والنص المفتوح وهو أمر هين قياساً الى الفروق الكبيرة بينهما، هذه الفروق التي تجعل من كل منهما نوعاً شعرياً مختلفاً تماماً عن الاخر بل وربما سيظهر النص المفتوح وكأنه طلاق كامل مع تاريخ القصيدة بأكمله فهو طريقة لا قصيدية بل نصية يستدعي بناء اخر يختلف عن القصيدة حتى وان كانت قصيدة نثر. ويمكننا، من اجل المقارنة الدقيقة بين قصيدة النثر والنص المفتوح، وضع الجدول الاتي:
قصيدة النثر
ان كتابة الشعر عن طريق النثر وهو ما اسميناه، ذات يوم (الشعر في النثر) يعني على وجه التحديد كتابة الشعر بواسطة النثر وبدون مساند عروضية ودون قافية هذا اولاً، ثم يتبع ذلك التخفيف من الركائز البلاغية التقليدية كالتشبيه والاستعارة والفصاحة واللجوء الى الكناية الجزئية او الشاملة والى وسائل بلاغية جديدة كالتكرار والتوازي والمفارقة وغيرها. ان ما تشترك به قصيدة النثر والنص المفتوح هو جعلهما النثر وسلة للوصول الى شعرية جديدة. هذه الشعرية، هي في جميع الاحوال، مختلفة عن كل ما كانت تثيره قصيدة العروض (العمودية والتفعيلة). هذا هو الشيء المشترك الوحيد بين قصيدة النثر والنص المفتوح وهو أمر هين قياساً الى الفروق الكبيرة بينهما، هذه الفروق التي تجعل من كل منهما نوعاً شعرياً مختلفاً تماماً عن الاخر بل وربما سيظهر النص المفتوح وكأنه طلاق كامل مع تاريخ القصيدة بأكمله فهو طريقة لا قصيدية بل نصية يستدعي بناء اخر يختلف عن القصيدة حتى وان كانت قصيدة نثر. ويمكننا، من اجل المقارنة الدقيقة بين قصيدة النثر والنص المفتوح، وضع الجدول الاتي:
قصيدة النثر
- قصيدة النثر آخر حلقة تطورية في تاريخ القصيدة فمنذ أغاني الزراعة والحصاد والأعياد والتراتيل والصلوات في العصر القديم والوسيط ومنذ الظهور الدنيوي المتماسك للقصيدة الموزونة فيهما وفي العصر الحديث منذ عصر النهضة بشكل خاص أصبحت (القصيدة) هي الشكل الشعري النموذجي وحين جاءت قصيدة النثر تمّ التخلي عن الايقاع العروضي والإبقاء على البناء الشكلي للقصيدة، فهي وإن شكلت قطيعة مع قصيدة الوزن لكنها ظلّت تنتمي الى مفهوم القصيدة.
- تستمر بنية (القصيدة) في قصيدة النثر وبذلك ترتبط بالبنية التقليدية السابقة للشعر.
- قصيدة النثر نظام شعري مغلق له بداية واستمرارية ونهاية، وبذلك يكون شكلها دائرياً وتماسك هذاا لشكل وحدة عضوية وكثافة وتوتر.
- تمتاز بقصرها النشي وبساطة تكوينها .
- تنقسم عموماً إلى القصيدة الشكلية التي تفرض بنية وأشكالاً إيقاعية منتظمة والقصيدة الإشراقية التي تمحو حدود الزمان والمكان
- لا تسرح القصيدة في تصيد المجهول بل تكتفي بالكشف السريع خدمة لفكرتها
- تمتاز بكثافتها وبلورتها للفكرة الشعرية وضغطها الشديد وصلادتها ولا تميل الى الاستطراد أو الشرح.
- تحاول القصيدة تمثل جوهر الشعر وتعبر عنه عبر أقصر الطرق والوسائل.
- تعتبر نوعاً من أنواع جنس الشعر وطريقة من طرق نوع القصيدة تحديداً رغم الانقلاب الجوهري الذي أحدثته في كتابة الشعر عن طريق النثر لا عن طريق الوزن.
- لها نوعان من الإيقاع: الأول هو إيقاع المعنى والثاني هو الإيقاع الشكلي الذي ينفذ عن طريق الاستعارة والتكرار والتوازي والمفارقة والمقاطع المنتظمة والبناء الدائري وايقاع الصورة الشعرية وايقاع الجملة أو شبه الجملة والايقاع البلاغي.
- غايتها في ذاتها فهي مستندة على ذات شعرية وتريد أن تحقق اكتفاء عالياً في تكوينها.
- .تعتمد على الإقتصاد اللغوي ولا تهدر كثيراً طاقاتها اللغوية وهي قصيدة معنى بالدرجة الأولى.
- لا تحفل كثيراً بالسرد أو الدراما وإن استخدمتها فسيكونا وسيلة عابرة.
- الوحدة العضوية أساسية فهي قصيدة تنمو بوضوح ودقة ولا مجال فيها للحذف أو الزيادة.
- تتبع نسق القصيدة الموزونة الى حد كبير.
- .النصّ المفتوح إنقطاع شامل عن مفهوم أو شكل القصيدة وإعلان عن نهاية تاريخ القصيدة وبداية لنمط جديد، هو شعر النص أو نص الشعر الذي نسمّيه اصطلاحياً ب (النص المفتوح). والنص المفتوح يتبنى كتابة الشعر عن طريق النثر بوسيلتين هما إلغاء الإيقاع الوزني وتبني شكل النثر وقوانين بنائه، أي أنه يثور مرتين على شعر الوزن فهو يلغي الوزن ويلغي بناء القصيدة ليتبنى بناء النثر أو بناء النصّ النثري.
- تنقطع بنية (القصيدة) وتبدأ بنية (النص) في النص المفتوح وبذلك يشكل قطيعةً كاملة مع البنية التقليدية السابقة للشعر.
- النص المفتوح نظام شعري مفتوح له بداية وتفاصيل ولاتحدّه نهاية بل يكون تائهاً وقابلاً لنهايات كثيرة. وبذلك يصبح أميبياً وغير محدد.
- تمتاز بطولها الواضح وتركيب تكوينها .
- لايسوده قانون واحدٌ في الأداء ويمكن أن ينقسم الى عشرات الأنواع حسب آلية العمل ووسائله مثل (نصّ السيرة، نصّ اللعبة، نصّ الجاندر، نص المخطوطة، نصّ الريبورتاج..الخ) كما سنرى، ويمكن ان ينقسم حسب انفتاحات النص الى أنواع أخرى.
- يسرحُ النصُّ في تصيِّد المجهول ويتناسل افقياً وعمودياً وتتكاثر فكرتها ولايعود للنص مركز واحد.
- يمتاز بغباريته وامتداده وفضائه السينوغرافي وتشتيث الفكرة الشعرية وجعلها متنا مثل دخان في فضاء وربما ظهر الاستطراد أو الشرح .
- يصنع النص المفتوح نفسه في الأعراض الشعرية أو في فضاء الشعر وليس في جوهره وقد يضطر لنحت خرائط كثيرة في هذا الفضاء للإشارة إلى الجوهر لتمثله مباشرة بقوة.
- يعتبر النصّ المفتوح محاولةً لجمع وتمثّل كل أنواع جنس الشعر، فهو يحاول أن يكون جنس الشعر كلّه عن طريق النثر لكنه في الوقت نفسه نوعٌ واحد محيط وغير محدود لجنس الشعر.
- لايحكمه إيقاع واضح وإن ظهر هذا اٌلإيقاع فالنصّ المفتوح غير ملزم به ولايُستدرج إليه. وقد يكون هناك إيقاع أسلوبي لايمكن تصميمه سلفاً بل يظهر وفق انسجامات وهارمونيات الشاعر نفسه.
- غايته خارج ذاته الشعرية ويُريد أن يأسر فضاءً شعرياً واسعاً.
- يعتمد على البذخ اللغوي ويسعى لتفجير اللغة وشحنها وتصادمها وهو نصٌّ لغوي بالدرجة الأولى.
- يستخدم السرد والدراما وغيرهما ويكون هذا الاستخدام جزءاً أساسياً من أسلوبية النص المفتوح.
- التركيب العضوي والخلط الحر هما أساس النص المفتوح ويمكن الحذف أو الاضافة في سياق العمل.
- يتبع نسق النثر بالكامل .
فتح النص الشعري عمودياً وأفقياً
سيبدو كما لو أننا نؤسس لإجراءات عملية لجعل النص الشعري نصّاً مفتوحاً، ويعتمد هذا على درجة المهارة العالية التي تنبيءُ عن لباقة الشاعر اللغوية والروحية والجمالية. لقد كان عملنا، أولاً، في ميدان النصِّ نفسه، كنّا نتلمسُ طريقاً شاقاً إذ ليس من السهولة بمكان نجاح نصوصٍ من هذا النوع، ثم أن تقليد أيّ نصٍّ عالميٍّ أو عربيٍّ سيكون عملاً لاجدوى منه، وكان لابد من طريقةٍ خاصةٍ، فقد قمنا بوضع (النصّ المفتوح) في حقيقته أولاً، دون مواربةٍ، في النثر بمعناه الشامل، وبدأنا بفتح النص الشعري باتجاهين مختلفين أولهما عمودي ذهب باتجاه الماضي وجعل الشعر يلامس النصوص الأدبية النثرية والشعرية القديمة والنصوص الدينية الأسطورية والمقدسة والصوفية، وثانيهما أفقي دخل في نصوص النثر المجاورة الأدبية والتاريخية والعلمية والمعرفية المعاصرة بشكل خاص، وهكذا تغير مفهوم الشعر لأنه أصبحَ يكمن تحت كلّ نصّ قديم وجديد، وهكذا ارتبط بالكتابة من ناحية التنفيذ لكنه لايهمل الكلام والسيل الشفاهي المتدفق، مثل نهر، بل لعلّه يتخذ منه روحاً محركةً له كما سنرى.
في دخولنا العمودي نحو طبقات التراث الدنيوي والديني الذي أُنتج في الماضي سنتخلى عن التعصب الحداثي وسنبدو أكثر قرباً من مادة الماضي والموروث لكن علينا الاحتراس دائماً من قوالب التراث التي ثارت عليها الأساليب الحديثة في الكتابة. مايهمنا إذاً بحر الكتابة الذي يلتمع بشذرات وموتيفات وتركيبات شعرية ساحرة يمكن أن تكون قوىً منشطةً للنص المفتوح الذي يجري بناءه، إن طبقات الموروث المحلي والقومي والعالمي تلتفّ على بعضها بطريقة يصعب معها تحديد مرجعياتها الأجناسية أو النظامية فنصوص الأدب والدين تلتف على بعضها كلما نزحنا الى الماضي البعيد.
ينفتح الشعرُ على السرديات الحكائية القديمة وعلى السير والتاريخ والحوليات ونصوص الجغرافيا ونصوص الأحلام والخرافات والملاحم الشعبية وأصناف الشعر الشعبي القديم والأغاني وغيرها هذا من جهة الأدب القديم، أما من جهة الدين فينفتح على النصوص الكتابية المقدسة والنصوص الأسطورية ونصوص التصوف والإشراق والغنوص بشكل عام ويحاول إعادة تركيب الطقوس والدورات الدينية المقدسة الآخروية ونصوص العود الأبدي وغيرها.
وفي هذا الانفتاح العمودي الباطني على لجج الموروث يغتني الشعر ويتخصب بماضي البشرية كلهّ، ويكون شحنته الأولى، وهو مايجعله يتصالح نسبياً مع ذاته.
أما إذا فتحنا النص الشعري الجديد أفقياً على نصوص الحاضر فعلينا أن نضعه أولاً في مديات النثر السردي والدرامي والشعري السائد من جهة الأدب وأن نعرّضه للتلامس مع آفاق المعرفة المعاصرة من علوم صرفةٍ وعلومٍ إنسانية وفلسفةٍ وثقافة. إن هذه الحركة الأفقية تتصالح كلياً مع الحداثة باعتبارها أفقاً إنسانياً رحباً وماثلاً للعيان في حقول المعرفة والأدب بشكل خاص. وهكذا يكتسب النصّ المفتوح من هذا الأفق آليات وتقنيات وأساليب الحداثة، ويكتنز من شحنات الحقول النثرية التي حوّلت مادة الحاضر المكتوبة الى نصّ شعري.
إن تناسل اللغة الشعرية، أفقياً، مع لغات وأساليب النثر بكافة أنواعه (الأدبية والعلمية) تعملُ على تخصيب الشعر.
إن قصيدة النثر، على سبيل المثال، تضغط الشعر وتقتصده في صور محتشدة بالمعنى، أما النصّ المفتوح فيدحرج الشعر في طيات النثر ويفتح هذه الصور لاحتمالات متناسلةٍ كثيرة. فهو يحرثُ طرق النثر ويحمل منها شحنات كثيرة تتحول فيها المادة الأدبية والعلمية والأسطورية الى فضاءٍ شعري يخلو من الأخلاط التي مرّ بها ليتنفس في هواء جديد لكنه مخصب.
تجذب قصيدة النثر فضاء الشعر كله نحو جوهر الشعر، بينما يفتح النصَّ المفتوح جوهر الشعر باتجاه فضاء الشعر. وبذلك يكون عملهما متعاكساً. وهكذا يكون الشعر في آخر مجترحاته قد أعطانا نمطين من الشعر أحدهما يشبه الشهيق وهو ماتقوم به قصيدة النثر من سحب هواء الشعر الى الرئة (جوهر الشعر) والآخر يشبه الزفير وهو مايقوم به النص المفتوح من دفع هواء الشعر من الرئة الى الفضاء، وهكذا يتنفسُ الشعر ويتنفس العالم بإجرائين متلازمين ومتّحدين.
ولأن الشعر كائن قبلي فهو يحول مايختلط به من الأشكال الأدبية والمعرفية الى أشكال بدائية قبلية أيضاً، فهو عندما يمسّ التاريخ فأنه يصبح عملاً قبل تاريخي وعندما يمسّ الدين فانه يصبح عملاً قبل ديني وعندما يمسّ الكيمياء فإنه يتحول الى عمل قبل كيميائي، وميزة القبل هنا أنه يحاول القبضَ على الكلّ الذي يحيط ذلك الحقل به نفسه، وهكذا يتمكن الشعر من خلال النص المفتوح أن يقفز الى ماقبل الفلسفة ويتحول الى (مصدر معرفة أولى) وبذلك يتحقق حلم الشعراء العظام في أن يكون (الشعري) مصدر المعرفة ففيه أجنتها وخطوطها الاولى. لقد قامت الفلسفة في فترة انفصالها عن الأساطير والخرافات وتبلورها بالاستحواذ على (الكليّ) والتعامل معه علماً أنه الحقل الأول في حقولها وتركت الأساطير تذبل وتضمر ثم تنتهي.. أما الشعر وهو يحاول تشكيل ذاته الخلاقة فإنه يتقدم في تلمس الكلي وإضاءَتهِ بشكل يختلف عن تلك التقنيات التي تعسفت الفلسفة وحصرتها فيه.. وهذا يعني ظهور نصوص أسطورية جديدة يصبح الشاعر مركزها ومولدها.
إن النص المفتوح هو فضاء الشعر وشكله الحر والكليّ.. إنه سينوغرافيا الشعر، أما ماخاضَ فيه الشعر (الموزون والمنثور) فقد كان نتيجة تبعيته لأجناسٍ غير أدبية. إن الشعر يعمل ضد الشكل والقصيدة شكل أما النص المفتوح فلا شكل له .
إن انفتاح النص الشعري عمودياً وأفقياً على الأجناس النثرية والعلمية والمعرفية وتلويثها ببراءته وعفويته وفطريته يجعله يستعيد السيطرة على مركزه الفعلي لها وتصيَّده للكليّ الذي يحيط بها او يتمركز فيها. وبهذه الطريقة يستعيد أو يمارس الشعر تمركزه الكلي/ القبلي في هذه الحقول التي انبثقت منه عندما كان مازال في مرحلة الكمون.. وبهذه الطريقة أيضاً تنتهي مرحلة القصيدة باعتبارها جنساً شعرياً مهيمناً ويصبح النص المفتوح هاضمةً كونيةً ينظمها نسق الشعر أو فضاءً مفتوحاً يدور حول جوهر الشعر.
تسعى قصيدة النثر لتكون جنساً شعرياً أما النص المفتوح فيسعى الى طريقة كتابة مبدعة بل والى طريقة تفكير جديدة.
تشي تسمية النص المفتوح أيضاً بانفتاح حواس الإنسان على بعضها وتداخل آلياتها مما يُنشِّط كلّ واحدةٍ على حدةٍ ويعطي للانسان توتراً وجودياً عالياً كما يعني ضمنا انفتاح الحقل الانساني يأكمله على الحقول الحيّة الأخرى التي حوله (الحيوان النبات) وتبادل الإيقاع معها، وكذلك حقول المادة الفيزيائية ويصبح الكون وحدةً شاملة قادرة على الاختلاط مع بعضها ويكون الشاعر هو راعي هذا الإختلاط عبر مدوّنته المفتوحة. وعن هذا الطريق يكون النص المفتوح جنس الأجناس المكتوبة ونوعاً من النصوص الأسطورية الحديثة الشاملة التي يتحقق فيها اختراق وتضمين وإعادة صياغةٍ وتناصٌ وذاكرةٌ ومخيلةٌ وحيوانٌ أخرى.
النص المفتوح وأنماط الشعر القديم
كان الشعر القديم كله منظوماً وكان يمكن تجليه إلى ثلاثة أنواع هي (الملحمي، الدرامي، الغنائي) ونحنُ هنا نتحدث، بطبيعة الحال، عن ما آل اليه فن الشعر الدنيوي ونستبعد أنماط الشعر الديني. وعندما جاءت القرون الوسطى قفز الشعر الدنيوي الى الواجهة وأكل من جرف الشعر أدبيين كثيراً، وبعد نهاية العصر الوسيط وبدء عصر النهضة بدأت القيود التي كبلت روح وعقل الانسان بالتراجع فتراجع النظم فكتبت الملحمة بأسلوب نثري ونتج عن ذلك ظهور جنسين أدبين هما الرواية ثم القصة، وكُتبت الدراما بأسلوب نثري فنتج عن ذلك جنسٌ أدبيٌّ جديد هو المسرح الحديث، وكُتبت الغنائيات بأسلوب نثري فنتج عن ذلك جنسٌ أدبي جديد هو قصيدة النثر، أما الشعر بصورة عامة فقد امتد في ما تعارفنا عليه في العصور الحديثة ب (القصيدة) وقد لازمها النظمُ ووصلت لنا بأشكال كثيرة، فالقصيدة جنسٌ شعري حديث نسبياً. ووسط كل هذه التطورات النوعية للأجناس الأدبية حُجبت الحقيقة الكبرى والعظيمة للشعر فقد تقطّع في أجناسٍ نثرية.. وكان قد سُجنَ في قوالب نظمية ووزنية قامت بتكبيل حريته، ولذلك نرى أن قيامنا بفتح الأبواب بين الأنواع الشعرية القديمة (الملحمي، الدرامي، الغنائي) بدلالة الأنواع النثرية الجديدة النابعة منها (السرد، المسرح، قصيدة النثر) متداخلة ببعضها ومعتمدةً على الكتابة بأسلوب النثر ومسّيرة بروح الشعر سينتُج عنه حتماً ما نسميه ب (النص المفتوح) الذي يمثل خلاصة تاريخ الشعر وأنواعه وفنونه على مر العصور. ومهما كان تاريخ ظهور الأنماط الثلاثة الأساسية للشعر القديم فإن الشعر الملحمي هو الذي بدأ بالإندثار مبكراً في حين بدأ الشعر الدرامي بالتقهقر، أما الشعر الغنائي فما زال حياً بقوة وهو الذي ورث كلّ أمجاد الشعر القديم، ولعل هذه الأنواع الشعرية الثلاثة كانت متداخلة في فترات تطورها ونشوئها، لكن الشعر الملحمي توارى بسرعةٍ وبذلك يكون الشعر قد فقد انفتاحُه على التاريخ والأسطورة والدين والعلوم القديمة وترشحت منه شحنات كثيرة ولم يبق سوى الجوهر الغنائي الفردي، ولذلك بات من الضروري أن نعيد انفتاحه على الأجناس والحقول الأخر وهذا لايعني أن نعود الى الشعر الملحمي بل أن نعود إلى الشعر بمفهومه الشامل والعميق عن طريق (النص المفتوح) بعد أن وعى الشعر ذاته وتمحور حولها.
النص المركّب
يمكننا أن نعي طبيعة النص المفتوح من خلال فهمنا لحركة الاختراق المستمرة التي تجوب داخله، وتكاد الإختراقات تتحقق بين الأجناس الشعرية والأدبية والكتابية بقوةٍ، ويبدو لنا هذا الشعر مركباً لاسبيل الى مقارنته بالشعر البسيط الذي له مواصفات خاصة. وبذلك يكون النص المفتوح مشابهاً للمركبات الكيميائية التي تملأ الطبيعة وتكوّنها.. بينما تشبه الأنواع الأخر الأخلاط والعناصر البسيطة.. وهنا لاينفي نوعٌ شعريٌّ النوعَ الآخر بل يتشكل منه أو يشكّل أحد احتمالاته ولكننا نودُّ أن نشير الى أن الطبيعة زاخرةٌ بالملايين من المركبات والعدد المحدود من العناصر. من هذه النقطةِ ومن غيرها نرى أن احتمالات تنوع النصّ المفتوح احتمالات لامتناهية..ويمكننا ابتكار عدد كبير منها وماعلينا الاّ اختيار طريقة (التركيب) التي تتضمن النسج الخاص بالشاعر، وهذا يعني أن الشاعر سيعبر دائماً فوق أزمة الشعر عن طريق فتح الشعر على المحيط والأعماق ففي هذا نوعٌ من أنواع الخلاص من مأزق الشعر لأن القصائد الموزونة والمنثورة تحشرُ نفسها، بعد وقت من ابتكارها، في مأزق التكرار والتسطيح أما النص المفتوح فيتعدى مثل هذه الأزمات بسببٍ من مرونة آلياته وقدرتها الدائمة على التشكل بمطواعيةٍ .
يسعى الشاعر لأن يقوم بدور الكيميائي في حقول اللغة والبلاغة والأسلوب حيث يتم ابتكار تراكيب جديدة في هذه الحقول ويتم خلط شحنات مختلفة ومتناقضة فيها بطريقة خلاّقة ومبدعة.
تسمحُ لنا عمليات التركيب العضوي للصور والأخيلة والبلاغات المتداخلة وأسلوبيات الشعر المفتوح بالتناسج والبناء حول نواةٍ أساسية تخصُّ طريق النصّ أو نوعه أو فضائه. وربما كانت هذه العمليات تجري وفق تداعيات مضمون النص ومايترتب عليها من أفكار وأغوار تزيد من غناه. إن التركيب الشكلي والهوس المجاني بالألفاظ والاستعارات الغريبة تنتجُ نصّاً مفككاً وهّشاً أما التركيب العضوي المدهش بجدته فهو الذي سيجعل التراكيب الصغيرة للنصّ المفتوح معبرةً عن ستراتيجية النص موضوعاً وأسلوباً. إن التركيب العضويّ سيجعل من النص المفتوح فسيفساء هولوغرافية تحتوي كل قطعة منه على نبض تركيبه الكليّ، ولذلك يبتعد النص عن كونه خليطاً جامعاً للمتناقضات أو المتشابهات أو الشظايا المنشطرة.
الشعرُ نصّ مفتوحٌ بين الكلام والتاويل
إذا كان الكلام نتاجاً فردياً أمام اللغة التي هي نتاج جماعي، فإن الخطاب هو (نسق محدد من الكلام، إنه كلام في حقل خاص، فهناك نسقٌ في الحقل السياسي إسمه الخطاب السياسي وهناك نسق في حقل التاريخ إسمه الخطاب التاريخي وهناك نسق في حقل الشعر إسمه الخطاب الشعري، ويضم الخطاب الشعري، على سبيل المثال، الشعر والكلام عن الشعر، أي الشعر والميتاشعر وهكذا يكون مجرى الكلام هادراً ينشطر أفقياً الى حقول عديدة تنشطر هي الأخرى عمودياً الى موجات مباشرة هي نواة الخطاب وموجات غير مباشرة هي الكلام عن هذه النواة والنظر والتأمل فيها. يتحول الخطاب، عن طريق الكتابة، الى نصٍّ، فالخطاب الشعريّ الذي هو نسقٌ خاصٌ في حقل الشعر سيتحول الى نصٍّ شعري عن طريق الكتابة. والكتابة هنا تضع الخطاب في إطار محدد وتجعل من الشعر، مثلاً، منقسماً إلى نصوص شعرية ونصوص نظرية.
إن فتح النص الشعري( أو الخطاب الشعري المكتوب) على نصوص وخطابات غير شعرية سيجعلنا أمام تفاعلات جديدة تنتج عنها احتمالات شعرية جديدة كان من الصعب تصورها. وهكذا يمارس الشعر حيويته وينبضُ من جديد في أنسجةٍ نصيّةٍ وخطابية أخرى مجاورة، أفقياً وعمودياً.
وفي حالة قراءة النص الشعري تفتح أمامنا احتمالات عديدة لتلقي النص ويصل بالتالي الى التأويل، أي أن النص الشعري يتحول الى التأويل، عن طريق القراءة، وبذلك تتضاعف إحتمالات النص المفتوح في التفسير أو التلميح ويكون الشعر قد ازداد ثراءً وخصباً وقوةً.
ويمكننا أن نلخص تلك العمليات السابقة التي تتبعناها بالمخطط الاتي:
يمكننا ملاحظة بعض الأمور في هذا المخطط:
- إن المستوى الثابت لعملية الإتصال يجري كما يلي (اللغة، الكتابة، القراءة)
- إن المستوى المتحرك التداولي للإتصال يجري كما يلي (الكلام، الخطاب، النص، التأويل) .
- إن المستوى الثابت هو الوسائل بينما المستوى المتحرك هو غايات يتعامل معها الإنسان ويحقق بها أغراضه الحقيقية.
- إن غاية الكلام هو التأويل، والتأويل هو الذي يُشبع العقلَ ويُرضي ملكةَ التطلع والمعرفة والفضول والشك.
- إن الشعر هو الروح الوحيدة التي تتحرك بحريةٍ كاملة في مجريات الكلام والخطاب والنص والتأويل والقادرة على فتح الثغرات في حقول ومستويات هذه المحطات والتحول بحريةٍ داخلها والتخصّب بشحناتها، ونرى ان النصّ المفتوح هو الشكل الأنسب لتحقيق مثل هذه الحرية.
النص المقدس يحيلُ الى الإيمان مباشرة أما النص الشعري فيتعثر فيه الإيمان لكن الإيمان النهائي يجب أن يتحقق وأن نصدق الخيال الذي نعلم بأنه خيالٌ وإلاّ صارت المتعةُ عن طريق الخيال هي الغاية وصار الشعر فّناً عادياً مثل بقية الفنون لكن الشعر يذهب أيضاً نحو الإيمان مهما تعددت طبقاته التأويلية.
الشعرُ يُكتبُ أساساً وفق تصميم تأويلي عبر الخيال والبلاغة ويدعو القاريء لمساحة أوسع من التأويلات القرائية.. فهو يتشكل في منطقة التأويل دائماً أكثر من أيّ نصٍّ آخر بضمنها النص المقِّدس.
التأويل حاضنة الشعر (نصّاً وقراءة) ولاشعر دون أن يكون هناك تأويل بهذا القدر أو ذاك.
هذا ينطبق على النص الشعري عامةً وكيف سيكون الأمر مع النصِّ المفتوح الذي يفتح باب التأويل على مصراعيه بحكم تشعبه باطنياً وأفقياً إضافة الى التأويل العام والأسلوبي للنص المفتوح.
إن النص المفتوح هو أحد أعظم مناجم التأويل الفني والخيالي والروحي لأنه يجمع أطراف العملية الابداعية بوجهيها المقدّس والدنيوي .
إن التاويل الشعري هو الأكثر من بين التاويلات الأخرى على التعدد والتضاعف لأن روح الشعر وآلياته تحرر اللغة/ الكلام من عوائقها وحدودها وتزيد من ثرائها وغور أعماقها. وهكذا يكون الكلام قد حرر نفسه تماماً في التأويل الشعري ووصل الى ذروة قوته وهو مايعمل على تحرير العقل من قيوده وكبح مصدّاته الكامنة، أصلاً، في قواعد اللغة الصارمة.
كذلك يمكننا النظرُ الى القراءة على أنها خاتمة عمليات بدأت باللغة المنصوص عليها في القواعد والمناجم . وانتهت بالقراءة ذات الآليات والمستويات المتعدد حيث يُعطينا الشعرُ، أيضاً، قراءات متعددة على اعتبار أن القاريء ليس طرفاً محايداً أو سلبياً بل هو طرفٌ إيجابي وفاعلٌ باتجاه الغنى والتعدد.
وهكذا يجعل النص المفتوح الشعر مفتوحاً على مجريين أساسيين هما الكلام الذي هو خامة الشاعر والتأويل الذي هو حرية القاريء، في حين تجعل القصيدةُ الشعرَ خطاً سالكاً باتجاه واحد بين الشاعر والقاريء، إننا نتحدث عن حُزمٍ هائلة من المعلومات والأخيلة والأحداث والمشاعر التي يدفع بها الشاعرُ، في النص المفتوح، نحو القاريء الذي سيضاعفُ إنتاجها عن طريق التأويل الواسع لكل خطٍّ من خطوط هذه الحزُم. وسيكون النصّ المفتوح عبارةً عن نهر متدفق قادرٍ على تكوين فروع لانهاية لها في أرض القاريء عن طريق التاويل. إن النص الأدبي الشعري ( وأعني به القصيدة) يشبه مايمكن أن تفعلهُ القصة أو الرواية من تأويلٍ بسيط عند القاريء، لكن النص الشعري المفتوح سيقودنا الى تأويل مضاعف لعشرات او مئات المرات.
المدينة، السوق، الشارع، البيت: نصوص مفتوحة
إذا انتقلنا إلى الحياة فيندر أن نجد أنفسنا لوحدنا أو في حقول صافية واحدة، إننا نعيش اليوم في مدنٍ هي عبارة عن شبكة معقدة من المرافق والمصالح والأحوال، فهناك الشوارع والمقاهي والمستشفيات والكازينوهات ومحلات الباعة والسيارات وغيرها.. وكل مفردة من هذه المفردات تحيل الى تراتبات وعناصر وقواميس خاصة بها وهي تظهر متجاورة ومتفاعلة مع بعضها ويمضي الإنسان/ الشاعر وسطها مثل الروح السارية الخفيّة فيها. إن الإنسان هو الذي يمنح كل هذه المفردات معنىً لأنه الوحيد القادر على أن يبوبها من ناحية، وأن يجمعها في عقله من ناحية أخرى ما الذي يعنيه هذا؟ ألا يوحي هذا بأن المدينة هي عبارة عن نصٍّ مفتوحٍ هائلٍ يمكن للنصِّ الشعريِّ أن يماثله، إننا يمكن أن نفكر في أمر واحد فقط في لحظة ما، لكننا نرى ونسمع ونشم ونحسُّ ونستبطن آلاف الأشياء في تلك اللحظة. وقد حصل العكس على مستوى التنفيذ فالفكرُ نفّذ خطاباته ونصوصه الكثيرة في أشكال عديدة، في حين اكتفى الشعر بنمط معين سار عليه الى وقت قريب وهو (القصيدة) في الغالب. النصُّ المفتوح يُماثل المدينةَ المفتوحةَ على بعضها والمتداخلة بطريقة يصعب تصنيفها وتبويبها بشكلٍ نموذجي، النص المفتوح هو الأكثر واقعيةً من حيث إجراء، من القصيدة (الموزونة والمنثورة) لأنه يعكس تركيب الحياة وتعقيدها الماثل للعيان وهذا لايعني فهم وإدراك هذا التركيب والنفاذ إليه، بل هو طرح أسئلةٍ عميقة لهذا التيه المتداخل من الحيوات والمشاهد المتجاورة.يمكن للسوق الواحد أيضاً داخل المدينة أن يقودنا لنفس الفكرة، فلو أننا اخترنا سوقاً واحداً ودخلنا اليه فإننا لن نجد فيه قماشاً فقط أو أحذية فقط بل سنرى أشياء كثيرة متجاورة مع بعضها.. فهل يمكن للنص الشعري أن يكون سوقاً ترى تجاور الصور والأحداث والأزمنة فيه؟..
وينطبقُ هذا على الشارع الذي يمكن أن نرى ونحن نمضي على رصيفه آلاف الأشياء المسرعة الخاطفة، وكذلك البيت الذي نعيش فيه حيث تنوع الحاجيات والأغراض والأمزجة والرغبات.... الخ
يمكننا إذن القول بأن الحياة، كلِّها، عبارة عن نصوصٍ مفتوحةٍ شديدة التركيب والتعقيد والنص الشعري يمكن أن يكون كذلك لكن هذا النصّ يجب أن يكون حّياً بروح الشاعر الوثّابة القوية وأن لايكون قاحلاً ومهجوراً وجغرافياً فقط. إن الشاعر الواعي لهذا التركيب يمكن أن يقدِّم لنا خرائط نصوصه بمهارة عالية ويمكن أن يتمثل جغرافياً الحياة في كتابةٍ موحية مليئة بالأسئلة والإنتباهات التي توقظ فينا القدرة على ربط كلّ هذا التنوع بخيطٍ سريٍّ هو روح الشاعر نفسه المحدّقة أبداً في التفاصيل والمشدودة الى النهايات البعيدة.
التشكيل، السينما، المسرح، الموسيقى: تقنياتٌ مُرَحَّلة
في قطاع الفن التشكيلي الحديث نجد أن هناك الكثير من التقنيات التي ابتكرتها المدارس الحديثة قد أغنت تاريخ الفن كثيراً، فتقنيه الأشكال الخفية التي أظهرتها التكعيبية إلى السطح وتقنيات الحلم والتجاور والتاشية والأدب والبوب والتجريدية وغيرها تعطي انطباعاً بأمكانية نقلها أو ترحيلها الى حقل الشعر وخصوصاً في النصوص المفتوحة. لايكفي أن نقول بأن الشعر يشبه الرسم أو أن الشاعر رسّام بالكلمات بل علينا البحث عن تلك التقنيات الحاذقة التي أنتجتها فنون التصوير والنحت والعمارة في العصر الحديث وأن نحاول التفكير جدياً في نقلها الى الشعر ليس بطريقة شكلية مخزية، كما جرت العادة، بل بطريقةٍ ينتج عنها تغيير جذري وجوهري في نصوص الشعر نفسها.
يمنحنا تيار فن عدم الدراية (التاشيّة)، مثلاً، القدرة على التواصل مع حقائق موضوعية تضعها الطبيعة امامنا فيقوم الفنان بالتحايل في معالجته للبقعة أو التاشة حتى تبدأ بالتجاوب معه والظهور نهائياً مثل سحب تتحرك أو أشكال أو دوامات، فالفنان هنا دائم البحث عن أشكالٍ مماثلة خلف حجاب الوعي، إنه يلتقط من قاع اللاشعور الذي يغلي في داخله جزئية نفسانية/ شكلية تحاول أن تطوِّع هذه البقعة الخارجية وتعطيها شكلاً فنياً. إن هذه التقنية يمكن أن تكون في الشعر وفي النصّ المفتوح تحديداً حيث يتم التعامل مع مادةٍ كلامية تقذف بها أفواه الناس بالصدفة ثم يبدأ العمل معها ونحتها وإعادة تشكيلها وفق الجزئية النفسانية/ الشكلية للشاعر حتى تظهر جملٌ وصور وبلاغة جديدة.
ولعلّ البوب أرت (الفن الشعبي) من أكثر الفنون إيحاءً بنقل أو ترحيل حرفياته لتخدم ظهور (النص المفتوح). والحقيقة أن البوب أرت هو نصٌّ تشكيلي مفتوح فهو على علاقة حميمة بكل ماله مساس بالحياة اليومية في الشوارع وعلى الجدران وفي واجهات المخازن والرسوم الكارتونية القصصية ويقوم البوب على أساس الجمع بين مختلف الأشياء بطريقة تجريدية تقريباً، فهو يخلط ويعالج حالات المدينة المتنافرة ويسعى لمجاورة الثلج والنار، إن صحّ التعبير، ويركّب على ماهو صناعي وإعلاني حالات إنسانية أو شعورية فاقعة لدرجة أن هذا الفن يبدو وكأنه فن فطريٌّ بدائي.
إن فلسفة التقنيات التي يقدمها البوب هي واحدة مع مايمكن للنص المفتوح أن يقدّمه من تقنيات مثل الدمج والقطع واللصق والإحلال والإبدال وغيرها. ولذلك نقدم فرضيتنا هذه بالقول بأن فن التصوير دائماً يمِّهد الأساس الذي تقوم عليه الفنون الأخرى من ناحية التقنيات، ولعل البوب أرت هو النظير الموازي للنص المفتوح في الشعر. وإن قدرتنا على استلهام التقنيات التي وصل اليها البوب ونقلها الى الشعر سيكون كفيلاً بالحصول على تراث جديد كامل من التجارب الشعرية الجديدة.. كيف السبيل الى ذلك ؟ ذلك مايمكن أن يتقصاه الشعراء ويبحثون عنه.
لايختلف الأمر كثيراً ونحنُ نعالج أمر النحت أو العمارة أو الديكور فقد قطعت هذه الفنون أشواطاً مذهلةً في القرن العشرين حيث تفجرت ثورة هائلة في فن النحت ووسائل النحت يمكن أن تلهم شعراء النصوص المفتوحة وكذلك العمارة باتجاهاتها الحديثة مثل الأرشيغرام والميتابولزم وهما المدرستان اللتان تصورتا المنشأ العملاق بكبر حجمه الذي يمكن أن يحتوي مدينةً كاملةً أو جزءًا منها والذي يمكن أن يتكيف لمقابلة الإحتياجات المختلفة. في السينما تبدو المسألة أكثر وضوحاً عندما نتقرب، عن كثبٍ، من تقنيات الإخراج والمونتاج والحيل السينمائية فكل هذه التقنيات تفيد السبيل الذي يساعد على ظهور نصٍّ مفتوح.
يمكن للتصوير السينمائي أن يقدم لنا درساً فريداً للعمل الشعري، فاللقطات البعيدة والمتوسطة والكبيرة تعطي لصورة واحدة مساحات متنوعة يتم فيها التركيز على مايريده السينمائي أو الشاعر، إن مشهد شجرةٍ واحدةفي حديقةٍ قد يقود الى دهشةٍ معينة.. لكن مشهد الشجرة لوحدها سيعطي دهشة من نوع آخر أما مشهد جزءٍ من الشجرة فسيكون له شأن آخر وهكذا.
أما زوايا النظر السينمائية (نظرة الطائر، الزاوية المرتفعة، الزاوية الواطئة، الزاوية المائلة) فتعطي مقابلاً شعرياً لزوايا نظر مختلفة في الشعر زوايا روحية وفكرية وجمالية وواقعية وخيالية وسلبية وعدمية....الخ
إن أفضل مايمكن أن تقدمه السينما للنصِّ المفتوح هو عملية المونتاج الذي هو ربط شريحة فلمية (لقطة واحدة) مع أخرى بحيث ترتبط اللقطات مع بعضها لتكوّن مشاهد، والمشاهد ترتبط معاً لتكوّن مقاطع متسلسلة وقد أشار أحد نقاد السينما الى أن المونتاج هو: البناء اللغوي للسينما. ورغم أن هناك طرقاً عديدة ومدارس كثيرة في المونتاج. لكن هذه الآلية المهمة تجعلنا قادرين على قصِّ ولصق الصوره والجمل والعبارات الشعرية بطريقةٍ خلاّقة تُبعد الرتيبة وتسلسل الأفكار السقيم للعمل الشعري، إن آليات المونتاج الشعري في النصِّ المفتوح تجعلنا، دائماً، قادرين على تحطيم الوحدات المنطقية والعقلية التي يمكن أن تقيّد العمل الشعري وتجعله نمطياً. بل أن المونتاج الشعري يمكن أن يطال اللقطة الواحدة ويعيد بناءَها النمطي الى بناءٍ مدهشٍ وخلاّق. وهكذا يقوم المونتاج ببناء المشاهد والمقاطع الشعرية وتنظيم تسلسلها الشعري. كذلك يقدّم لنا المونتاج فرصةً رائعة للتخلص من الصور والمشاهد الرديئة بحذفها وبترها من العمل الشعري.
إننا نرى أن موهبَة الشاعر الحقيقي تقوم أولاً في ابتكار الصور والمعاني الشعرية وإجادة عرضها وتشكيلها، وثانياً في قدرته على أن يكون مونتيراً شجاعاً ماترهل أو كسدَ أو تكرر في عمله الشعري وأن يقوم بمونتاج ذكيِّ ومرهف وخلاّق لمقاطعه وعباراته الشعرية، الأمر الأول تقوم به مَلَكَة الخيال والإبداع فيه والأمر الثاني يقوم به ذكاؤه ورهافته وانسجامه وشجاعته. فالمونتاج هو العمل الشعري الثاني المعني بالتنظيم يقدم لنا الفلم السينمائي إمكانيةً هائلة للتلاعب بالزمان فهو يختصر زمن الأحداث إلى لقطات مكثفة تحمل مايدل على الحدث العام، كما أن إمكانية العودة الى الماضي أو اختراق المستقبل ممكنة في كلِّ الأحوال. وتتيح مثل هذه التقنية التقليدية وإمكانية وضع الأزمنة الثلاثة في حالة خلط او مجاورة أو صراع في النصِّ المفتوح. وينطبق هذا على المكان ففي كلّ لقطةٍ مكان ، إذ يمكن أن يكون في كلِّ صورةٍ أو جملةٍ أو عبارة مكان او عدة أمكنةٍ في النصِّ المفتوح، وهو مايتيح للشاعر الحركة بحرية في أزمنةٍ وأمكنةٍ كثيرة.
أما المسرح فيقدم لنا إمكانيات نصيّة هائلة فالدراما عنصرٌ حيوي في النصِّ المفتوح والصراع والحوار، لكن المهم في النصِّ المفتوح استبطان الدراما والصراع والحوار وليس عرضها على السطوح كما في المسرح، يمكن للنص المفتوح أن يحتضن الحوار بين صوتين أو قوتين أو وهمين أو فكرتين.. ويمكن للحوار أن ينشطر بين عناصر كثيرة مادية ومثالية وغائبة ووهمية.
ولكن العنصر الأهم في المسرح يأتينا من السينوغرافيا التي تعتني بتنظيم عناصر المسرحية في الفضاء المسرحي، وهذا ينطبق على النصِّ المفتوح الذي نراه من جهة اخرى سينوغرافيا شعرية تنظِّمُ العناصر والأحداث والصور والحوارات والزمان والمكان والاستعارات والبلاغات والمعاني داخل فضاء مفتوح في سياق هارموني وبدلاً من أن تكون السينوغرافيا هي المشهد الشعري في لحظة ثبات لصورة ما ( كما في قصيدة النثر عادة) فأنها تكون في النصِّ المفتوح المشهد الشعري العالي التركيب والمتدفق الصور في فضاء النص، وهو بمعنىً من المعاني قدرة الشاعر على تنظيم العناصر الصورية والدرامية والصوتية للعمل الشعري.
إن سينوغرافيا النصّ المفتوح هو التشكيل البصري والسمعي وهو الهندسة الجمالية لفضاء اللغة الشعرية، إن الشاعر في النص المفتوح مثل المهندس السينوغرافي الذي يحسب بعناية ودقة مقادير وموازنات العناصر والصور والأصوات التي تساهم في بناء الفضاء الشعري الذي هو أساس النصِّ المفتوح.
إذا كان العروض الشعري مفهوماً دالاً على رصد البنية الموسيقية للقصائد العمودية وقصائد التفعيلة وإذا كانت الصورة الشعرية مفهوماً دالاً على رصد التشكيلات الصورية داخل الأعمال الشعرية عموماً فإن السينوغرافيا يمكن أن يكون مفهوماً دالاً على رصد الشبكة البصرية والسمعية داخل النصِّ المفتوح وهو المعني برصد وضبط إيقاعات الصور والمعاني داخل النصِّ المفتوح، إنه ميزان الصوت والصورة فيه.
إن المعنى الحرفي للسينوغرافيا هو (سينو = صورة، غرافيا = رسم) فيكون هو (رسم الصورة) فهو مصطلحٌ مرنٌ جداً يمكن نقله من المسرح إلى قطاعات أخرى وخصوصاً الشعر، ف (الصورة الشعرية) مصطلحٌ أحادي بسيط يرتبطُ، عادة، بكل نصِّ شعري، أما النصِّ المفتوح فهو عبارة من مركب هائل من الصور الشعرية يحاول الشاعر رسمها وتركيبها وموازنتها بعناية، ولذلك يكون مصطلح السينوغرافيا الشعرية أكثر دقةً في التعبير عن رسم الصور الكثيرة في النصِّ المفتوح.
الموسيقى كذلك تمنحنا الكثير لفهم وتشكيل النصِّ المفتوح ويقيناً أن الشكل السمفوي هو الأكثر رقيّا والذي بإمكانه أن يناظر النصِّ المفتوح، إن البناء المركب للعمل السمفوني يمنحنا فكرة عن البناء المركب للعمل الشعري، فالسمفونية تحتضنُ في داخلها كماً هائلاً من الألحان والأنغام وأصوات الآلات الموسيقية التي تظهر كما لو أنها في حوار جدلي خلاّق. وبشكل عام تقوم الميلودية (التي تمثل الصيرورة) والتي تعبر عن الزمان المفتوح والزمان العميق وديمومة الإبتكار بتكوين الفضاء الصوتي للعمل الموسيقي.. أما البوليفونية (تعددية الأصوات) فتقوم في العمل السمفوني بشكل خاص بمزج وخلط المصادر الصوتية في تركيبٍ شكلي ومعماري دقيق.
إن الميلودية والبوليفونية تقدِّمُ للنص المفتوح ميكانزمات الخلط والتركيب الصوتي القائم على دقةٍ ومهارةٍ كبيرتين.
أما الأوبرا فتعلمنا المزج بين حقلين متجاوزين (الصوت البشري والموسيقى) وهي توحي لنا شعريا بالمزج بين السرد والشعر أو الحوار والشعر أو الأسطورة والشعر، مثلاً، ولكن هذا لايتم الاّ بتنغيم السرد أو الحوار أو الأسطورة أو برفع مقامها الأدائي الى مقامٍ شعري.. وهذا يعني العمل على هذه الفنون وتطويعها للشعر قبل أن تدخل في متونه. لايمكننا في النص المفتوح الإتيان بنصِّ سردي خالص لحكايةٍ أو قصة أو سيرةٍ دون أن نُتبِّلها شعرياً أي دون أن نجعلها قابلةً للإندماج بشعرية النص المفتوح والاّ نكون قد انتجنا مايشبه الكولاج المفتوح الذي عماده والقص القطع واللصق، لكننا في النص نطبخ السرد أو الحوار أو الأسطورةونهيئها لأن تدخل نسيج الشعر. إن الأصوات الرجالية في الأوبرا (تينور، باريتون، باص) أي (الحاد، المتوسط، الخليط) والأصوات النسائية (سوبرانو، ميتسو سوبرانو، ألطو) أي (الحاد، المتوسط الغليظ) لاتدخل كما هي بطبقاتها هذه بل تدخل بعد أن تعالج تلاوين الكلام ودرجاته اللحنية وبعد أن يتحول الصوت إلى موجةٍ نغمية، وكذلك يكون هذا بالنسبة لأي عملية خلط بين متنين كتابيين في النصِّ المفتوح.
وهكذا تحملُ الفنون كنوزاً كثيرة في آلياتها وميكانزماتها وطرق معالجتها يمكن أن تعطي النصِّ المفتوح حيويةً جديدة وتجعله مفتوحاً حقاً على هذه الفنون، ولعل تسمية المفتوح ترشحّه لأن ينفتح على كلّ أصعدة النشاط الإنساني ليأخذ منها مايعنيه على الإبتكار الجديد.
أنواع النصِّ المفتوح
إذا كان النصُّ المفتوح جنساُ كتابياً فهذا يعني أنه سينتجُ أنوعاً له وهو ينمو ويتطور، بل لعلنا لانبالغ إذا قلنا أن النصَّ المفتوح مرشحٌ لأن ينتج الكثير من الأنواع النصّية المفتوحة. ورغم أننا مازلنا في بداية طريق النصِّ المفتوح ومازال الإقبال على كتابته قليلاً ومازالت أنواعه غير واضحةٍ للعيان وغير متميزةٍ بدقةٍ ووضوحٍ. لكننا، مع ذلك، نستطيع أن نرى في بعض النصوص بذوراً لأنواعٍ قادمة وأن نرى في الأفق احتمالات لظهور انواع أخرى قد يكون من المفيد التحريض على كتابتها.
1 -نصُّ السيرة
يتمتع نصُّ السيرة، دون سواه، بقدرة فائقة على الموائمة والمطاوعة، فهو نصٌّ ينمو أو يتدرج في عرض سيرة شخصية بطريقة شعرية لاسردية ولاتأخذُ بالاعتبار طريقة السيرة التقليدية، إنها استبطان للسيرة التقليدية، وتكثيفها بطريقة شعرية، يمكن للسيرة إذن أن تُسرد كما هي بطرق سردية معينة أو أن تُسردَ بطريقة شعرية، نصُّ السيرة إذن نصٌّ شعري مفتوح غيرُ ملزمٍ بالتصرف سردياً في عرض سيرة الشاعر أو سيرة شخص آخر كما هي أو تسلسلها المنطقي المعروف، تتحول مراحل السيرة ومحطاتها الى مشتبكات احتدام لغويًّ وصوريًّ من نوع خاص، وقد تدخل الأساطير والحكايات والملاحم والفولكلوريات على هذه السيرة وتساهم في تخليقها وتطعيمها بالمدهش والجميل والغامض. تتفكك السيرة التقليدية الى وحدات صغيرة يمكن إعادة بنائها وصبغها وشحنها بمقومات أخرى وتتحولُ السيرة الى فضاءٍ شاملٍ قد تلتقي معه سيرٌ وحيوات وتواريخ واحداث أخرى. إن غنى السيرة يكمن في اتصالها بحرارة الواقع وبانتقاء عقدة الدراماتيكية المهمة وهو مايرشحها الى الإثارة والإدهاش لكن نصّ السيرة يعيد إنتاج هذا المدهش بآليات شعريّة تعطيه بناءً هارمونياً يتصل بشكل الروح وهندسة الجمال الداخلي، ومن هنا تتحول السيرة من حكايةٍ الى رابسودية متفجرة بالجمال. من جماليات نصِّ السيرة أنه يتيحُ فرصة هائلة لاستحضار سير شخصيات عظيمة (شعرية وغير شعرية) وإعادة استبطانها وعرضها بطريقة أخرى، بل ويمكن لنصِّ السرد أن يدمج بين سيرتين أو أكثر ويجعلها وكأنهما في سياق واحد وهو مايزيد من مساحة وحجم السيرة كما لو كانت وحدها، ولعل من تجاربنا في هذا الصدد نص (عكازة رامبو).
إن نصّ السيرة ليس نصّاً ببلوغرافياً تقليدياً بل هو فتح البيلوغرافيا كونياً وزمنياً وجعلها تتدحرج وتلتاث بسير وحيوات الآخرين، إنه رسم مصير جديد لم يكن ممكناً تحققه في السيرة الحقيقة أو في السيرة المكتوبة بتقليدية. إن سير الشعراء، مثلاً، مكتوبة بطريقة تقليدية لاتلتمعُ فيها الاّ تلك الانتباهات المدهشة لكتّابها وهو فنٌّ لانعترضُ عليه وهو في حقله، لكن نصَّ السيرة كلّه عبارة عن انتباهات مدهشة وخلطات كيميائية خاصة لمقاطع في الحياة وفي الوعي وفي سير الآخرين بل في سير النبات والحيوان والحجر والنجوم، إن نصَّ السيرة أقرب مايكون الى ملحمةٍ لم يتمكن الشاعرُ من عيشها، فهو يكتب عن حياته كما كان يتمناها وهو يفتح هذه الأمنيات على العالم كلّه والتاريخ كلّه، إنه يؤسطر هذه السيرة ويُشعرنها ويجعلنا نشعر بأنه نحن وأننا هو بل بأنه كلّ من تعرفنا عليهم في مناطق العلو كتابةً وقراءةً وحياة.
2.نص اللعبة
يمكن لكلِّ لعبةٍ أن تكون أساساً للكثير من الأعمال الإبداعية كالقصة والرواية والمسرح والشعر، فالألعاب، في حقيقتها، تقوم على الذكاء والمفارقة والمهارة والتربص والمباغتة وغيرها وهي عناصر يمكن أن تكون آليات إبداعية في الكتابة، فقد استثمرت رواية (لعبة الكريات الزجاجية) هذه اللعبة وأرتفعت بالموسيقى والسيرة والمعرفة الى مستوى إبداعي مذهل وتربّع فيها (هيرمان هيسه) على مجد نصًّ روائي لايضاهى لكنه بقي في حقول الرواية وقام إيتالو كالفينو بكتابة قصص تجتمع في ثيمة واحدة عبر (لعبة الورق) في (قلعة المصائر المتقاطعة).. أما الشعر فلا عهد لنا بعمل شعريّ حاول أن يستثمر بنية اللعبة لصالحه باستثناء عملنا (حيّه ودرج ) الذي هو نصٌّ مفتوح يقوم أساساً على لعبة ال (حية ودرج). إن اللعبة، مهما كان نوعها، توفر بنية داخلية قادرة على تجميع عناصرالنصّ المفتوح وفق آلية هذه اللعبة من ناحية، ثم أنها قادرة على إعطائه شكلاً معيناً يميّزهُ عن غيره. إن اللعبة، هنا، رديف الصنعة فهي آلية الشاعر التي يحرث بها حقول الشعر وحقول المجهول ويجعلها وسيلةً لاستنطاق كلّ يمر به الشاعر من ألغازٍ وأحوالٍ وأحداثٍ ونصوص ومشافهات.
اللعبةُ هيكل يُعلَّقُ، بتناسق معين، الصور والسياقات والرموز والتراكيب الشعرية، ويمكن للعبة أن تساهم في شكل وأسلوب النص المفتوح، ويمكن القول أن اللعبة تحكم ترهل الشكل وتجعله محبوكاً متماسكاً ولذلك يظهر نصُّ اللعبة المفتوح أكثر النصوص إحكاماً وسبكاً.
ولاشك أن جميع الألعاب صالحةٌ لأن تستعمل في كتابة نصَّ شرط أن تدفن آليات اللعبة داخل العمل ولاتبدو أدواتها ظاهرة على السطح، وقد تدخل الألغاز في نسيج اللعبة بحيث يتوقف كلّ هذا على مهارة الشاعر في تداول أدواته الإجرائية. وتصلح ألعاب الطفولة والورق والألعاب الفولكلورية وألعاب الكرة والرياضة والتسلية وألعاب الأتاري والأقراص الالكترونية الحديثة، وألعاب النساء والقتال واللصوصية والتخفي والمراودة وغيرها في تكون مادة هيكلية للنصِّ المفتوح شرط أن تكون ملائمة لطبيعة ذلك النص والغرض المراد منه.
3. نصُّ الجاندر
يعني مصطلح الجاندر( Gender تحديداً العلاقة بين الرجل والمرأة وهو يتسع ليعني العلاقة بين الذكورة والأنوثة عموماً. ولكن كلمة الجاندر هي الأكثر للتعبير عن هذه العلاقة، فهي ترصد التفوق الذكوري أو الأنوثي ومدى التوازن بينهما في التاريخ وفي أي حقل من حقول الحياة والفكر واللغة. ونرى أن النصَّ الشعري الذي يرصد هذه العلاقة ويكرِّس نفسها لها هو نصُّ من نصوص الجاندر، التي قد تكون الأنوثة الفمنستية Feminism جوهراً لها عندما يتعلق الأمر بتكريس أنوثة المرأة أو تأنيث العالم، إن صحَّ التعبير، وقد تكون الجنسانية sexism محوراً لها عندما يتعلق الأمر بسيادة الجنس وأشكاله في النص المفتوح، وقد تكون الإيروسية Erotica محوراً لها عندما تكون المشاعر والعواطف الحسيّة هي الأساس، وقد تكون الذكورة الخالصة المتفوقة أساساً لها وهكذا يدور الأمر حول العلاقة وشكلها بين الذكورة والأنوثة هي أساس هذا النص. ولعل (أناشيد الحب والجنس) بين دموزي وإنانا السومرية ثم كتاب (فن الهوى) لأوفيد الروماني ثم (طوق الحمامة) و (مصارع العشاق) العربية هي الجذور القديمة لمثل هذا التوجّه لكن نصوص الجاندر الحديثة مازالت قليلة رغم أن فن الرواية كرّس بعضها أما في النصوص المفتوحة الشعرية للجاندر فما زالت قليلة ولعل محاولتنا المتواضعة في (خيط العبور) و (حمام النساء في كركوك) و (ركوكو) تقع في هذا الاتجاه.
إن نزار قباني مثلاً وهو اكبر شعراء الجاندر في عصرنا الحديث كتب قصائد جاندرية رائعة وله نصوص نثرية في هذا الاتجاه لكنه لم يستبطن الأنوثة والذكورة وأبقاهما على سطح الشعر.
إن مهمة نص الجاندر المفتوح هو استبطان العلاقة الخفية بين الذكر والنثى، بين المرأة والرجل والذهاب باتجاه تأنيث العالم أو تذكيره بطريقة خلاقة. ولاشك أن تأنيث العالم هو المسعى الأساس في هذا الجانب لأن الأنوثة هي نبع الأبداع في الرجل ولأن الأنيما ( المرأة التي في الرجل) هي المسؤولة عن هذا الإبداع، وعندما يسعى الرجل الشاعر الى تأنيث العلم يكون قد واجه ونشر الأنيما التي في داخله وبذلك يكون قد أعطى نكهةً فريدةً لعالمه. كذلك عندما تسعى المرأة الشاعرة الى تذكير العالم تكون قد واجهت ونشرت الأنيموس (الرجل الذي في المرأة). لكن تأنيث العالم هو الأشد إغواءً وجاذبية في كل الأحوال.
إن النصوص الأنيمية هي نصوص لذّة وإيروس وجنس وأنوثة تسعى لأن تقف بقوة في حقل الجاندر الذي هو حقل الجمال الناشيء عن تماس الأنوثة والذكورة. ولاشك أن المادة الأولية لهذه النصوص تزخر بها الحياة أولاً والموروث ثانياً فالشاعر الذي يتهجسُ طريقة في هذا العالم لن يجد نفسه وحيداً بل سيشق طريقة بصعوبة بين شعراء الغزل والحب والجسد القدامى والجدد، ولكن آليات النصِّ المفتوح ستمنحه فرادة استثنائية عندما يعيد تخليق الهيكل الايروسي في نصوص الجاندر.
4. نصُّ المخطوطة :
المخطوطات القديمة مصدر إلهام شعري ليس من خلال مادتها المتنوعة فحسب بل من خلال شكلها وطريقتها في التنظيم والترتيب، ويمكننا كتابة نصٍّ مفتوح على وفق السياق الشكلي والهندسي للمخطوطات القديمة بحيث يتجلى ذلك أما في طريقة الترتيب أو في النوع (الكاليغرافي) للكتابة أو باضافة الصور والرموز والتخطيطات المكثفة داخل النص لتبدو جزءاً من النص وليس كمادةٍ تزيينية فقط، وذلك يجعلها روحاً حيوية تسري داخل النصِّ لا على هامشه أو خارجه. إن نصَّ المخطوطة يمكن أن يكون نصاً فارهاً مؤثثاً بالكثير من اللوازم والفراغات والبياض وغيرها وهو بالتالي نصٌّ يميل الى الشكلانية في الكثير من جوانبه، لكن ضرورة الحدِّ من هذه الشكلانية هي امر يستوجب العناية أيضاً بالخط اليدوي أو (الكاليغراف) المنوّع الذي بشرت به السريالية، مثلاً، قد يكون عبئاً على استقبال النصِّ وتداوله، ولذلك يمكن (للكاليغرافية) واليدوية أن تجد لمستها في العناوين وبعض الجمل أو في الفضاء الحر الذي يشكلّهُ النص. لكن الغنى الأكبر يكمن دائماً في التعامل النوعي مع طرق وأساليب المخطوطات القديمة من حيث الترتيب والتنظيم وطريقة التوصيل.
يمكننا جعل النصّ المفتوح نصّاً يقترب من الأرشيف الشخصي الخاص بالنصوص والرسائل والصور والقصاصات والطوابع والبوسترات والاغلفة والجمل الاثيرة والآليات والمآثر والمشاريع والذكريات الأسرية والخاصة....الخ، ففي كلِّ هذا الحشد من مادة الأرشيف يمكن أن يظهر نصُّ المخطوطة ليعبر عن نمط جديد من الكتابة، وقد حاولنا فعل ذلك في عمل (ركوكو) الذي هو نصّ مفتوح.
إن فتح نصِّ المخطوطةِ على كل هذه العوالم الكتابية والصورية والرمزية وغيرها يجعل من النص بؤرةَ حياةٍ وذكريات حافلة وهو مايسعى له نصّ المخطوطة، ونحنُ إذ ندعو لهذا العمل الجديد لانتغاضى عن أعمال سابقة كثيرة ظهرت هنا وهناك في تراثنا الشعري العربي والغربي.
تسمح لنا عمليات الخلط بين مواد الأرشيف الشخصي والعام في الحقل الذي نختاره أن نولدّ الصور والأفكار والموتيفات المدهشة شرط أن لايسيطر السرد علينا وأن لانحوِّل السيرةَ الى قصةِ ذكريات شخصية. لابد من مهارة في صياغة هذا النوع من النصوص وإلاّ وقعنا في المباشرة والعرض المجاني، لابد من رفع هذه المواد الخام إلى مستوى الابداع وصهرها بطريقة تؤدي الى فضاء شعري لا إلى زركشة أرشيفية أو رواية بابلوغرافية سمجة وستكون مهارة الشاعر وحساسيته العالية سبيلاً لتحقيق ذلك. إن المخطوطات القديمة والمخطوطات الشخصية، بكل أشكالها وانواعها، هي أساس نصِّ المخطوطة ومادتها الخام وقد يجري ذلك على وفق قدرة عالية يمتلكها الشاعر أساساً أو وفق قدرة ضعيفة، ولكن نصَّ المخطوطة المفتوح مازال أيضاً بكراً يمكن أن يكون بداية نوع جديد من الشعر.
5.نص الريبورتاج
وهو النص الذي يستثمر آليات الريبورتاج (التحقيق) الصحفي فهو يجري على وفق الطريقة التي يكتب بها التحقيق الصحفي ولكنه نصٌّ شعري حيث يتعين على الشاعر القيام بسياحة أفقية وعميقة في الموضوع الذي هو بصدده فيجري المقابلات مع الشخصيات الحقيقية والوهمية والتاريخية والأسطورية التي يريد لها الحضور ثم يصف المكان ويخترقه بأسئلة غريبة.تشكل السخرية آلية مهمة من آليات نصِّ الريبورتاج إذ يتم عرض الحقائق والأفكار والأخيلة واستبطانها بالسخرية وجعلها معرضة هي الأخرى لسخريةٍ سوداء أو مباشرة. كذلك يشكل استنطاق الحقيقة الواحدة من عدة زوايا وبعدة طرق آلية ناضجة هي الأخرى.
إن الريبورتاج الصحفي يستقصي الحقائق ويوضح المستور في حين يقوم الريبورتاج الشعري باستقصاء الحقيقة الشعرية خلف الظواهر السطحية بمختلف الطرق، فهو وسيلة لاستنطاق هذه الحقيقة ولايمكن ان يكون غاية بذاتها، إن مايخلفه الريبورتاج الشعري من طرائق وأساليب وهياكل وتقاطعات وحوارات ستجعل الحقيقة الشعرية تتكشف خلف ستار شفيف من الأحداث وستجعلنا امام انتبهات جديدة عبر وسائل جديدة.
لقد نهضت رواية (مائة عام من العزلة) لماركيز من مران الخبرة الصحفية للكاتب ومن طرائق الريبورتاج الذي حفر هياكله هذه المرة في مناطق السرد، ويكون ماركيز بذلك الاجراء قد اخترع نمطاً جديداً من الرواية لاعتبارها (واقعيةً شعريةً) فقط بل باعتبارها رواية ريبورتاج من الطراز الرفيع. هذا مثلٌ من منطقة السرد يمكن أن يشير الى أعمالٍ ستكتب في منطقة الشعر من خلال النصِّ المفتوح.
ليست كتابة الريبورتاج وحدها تسَّربُ ميكانزمات وطرائق كتابة نص الريبورتاج المفتوح بل هناك خبرات أخر مثل صياغة الخبر وكتابة العمود الصحفي والاستطلاعات الصحفية والاستفتاء وغيرها. فالاستطلاع الصحفي مثلاً يوفر سياحة تاريخية ومعمقة في موضوع ما ويجري على كل مايخدم ذلك الموضوع.
إن أسلوب رصد المساحلات والحوارات والمناقشات يمكن أن يكون رافداً في كتابة نصِّ الريبوريتاج الشعري المفتوح.
ولعلّ مايفعله (الدراماتورغ) في المسرح يمكن أن يرفد هذا النص بالكثير، فهو الشخص الذي يقوم باختيار النصوص وتركيبها واعدادها وتبرير الشكل فيها وهو الذي يجمع المعلومات التاريخية ويتابع نمو الشخصيات وتطورها في المسرحية قبل العرض وقد يساهم مع المخرج في بناء المشهد والحركات والتكوين ويقترح شكلاً لها. إن لدراماتورغ قادرٌ على أن يوفر وظيفةً رائعة لكاتب النص المفتوح في اتباع سياقات هذه الأمور وجعلها تتوجه نحو الموضوع أو المادة الشعرية.
6.النص الباطني :
لعلّ هذا النوع من النصوص المفتوحة يتعارض من حيث التوجه مع جميع النصوص المفتوحة السابقة التي يمكن أن نسميها ب (النصوص الظاهرة) . إن هذا النص يسير في مناطق الباطن وهو نصُّ هيرمونطيقي (تأويلي) صرف فهو ينزل الى طبقات الأعماق ويتخذ له من المستوى الضمني مكاناً، إنه نصُّ يتحاشى الظاهر وينزلُ الى الأعماق الغائرة للغة والصورة والبلاغة والأسلوب. يمكن أن يكون النص الغنوصي أو الشعر الغنوصي كما أسميناه سابقاً أحد مسميات هذا النص الباطني لأنه يتخذ من فكرة الخلاص أساساً ولأنه يتتبع دورتي الفيض والعود الأبدي وحركتي النفس والروح ويستلهم الغنوص الأسطوري والديني والصوفي بشكل خاص. وقد قمنا بتنفيذ ذلك عبر (خزائيل) بشكل خاص. لكن النصَّ يبقى أوسع من الغنوصي فهو يحاول احتضان الكشف الباطني الذي كان من نصيب الأديان الخاصة ذات يوم. يستطيع الشاعرُ أن يستلهم من الفلسفة الهرمسية أو الافلاطونية أو الافلوطينية أو من التصوف أو التشيع أو الاشراق آليات كتابة نصوص الباطن فهي تمنحنا القدرة على تقليب طبقات الباطن وتفجير أغوارها. ويستطيع الشاعر أن يستنبط له آليات خاصة من كل هذه الحقول الدينية والروحية، إن النص الباطني يقربنا من الينابيع الخفية للدين وهو، أيضاً، يقربنا من المناهل السرّية للجسد، فالجسد يلعب دوراً استثنائياً في رحلة الباطن سواء بنفيه للوصول الى الروح أو بتخصيبه للوصول الى النفس، أو بتلاقي الروح والنفس في حلقتي الاتصال والانفصال للفيض والعود الأبديين.
في النص الباطني تغور الحقائق التي تطفو على السطح وتأخذ لها مسرىً خفياً قد تنقلب الى عكس ما كانت تدلّ عليه في الخارج وقد تتحور بدرجة أو بأخرى وقد تلتبس وتتعتم وقد تشير الى جهات أخر غير جهتها، وهكذا يتحول الشاعر الى كاهنٍ يزداد صمته كلما توغل في الأقاصي، لكنه يهيج سياقات اللغة وهو في طريقه إلى هذه الأقاصي، إن المسرى العرفاني التي تجري فيه محطات الشاعر ستقوده إلى مستويات مدهشة من الرؤى والى صور لايصادفها وهو على السطح فهو مثل الذي يشاهد حلماً في هاوية سحيقة أو في سماوات لانهاية لها. وهكذا يمثل النص الباطني أقسى وأعمق النصوص المفتوحة فهو امتحان لجلد الروح وخصوبتها وقدرتها على التحرر والانعتاق الى العوالم البعيدة.
* * *
يمكننا أن ندرج أنواعاً أخرى من النصوص المفتوحة لكننا سنتوقف عند هذا الحد، مؤكدين على أن النصَّ المفتوح قادرٌ على إعادة إنتاج نفسه بطرق مختلفة وبأدوات واساليب مختلفة شرط أن يكون هناك تناغمٌ بين الحاجة لانتاج مثل هذه النصوص والأدوات والأساليب والأنواع المناسبة لهذه الحاجة وهو ماتستطيعه المواهب الكبيرة التي ستقدم على مثل هذه الأعمال. لكننا يجب أن نؤكد على بعض الحقائق الهامة وهي أن النص المفتوح هو نصُّ شعري وليس نصاً لاجنس له أو عابراً للأنواع الأدبية بشكل خاص، إنه يقع أولاً في منطقة الشعر ثم نراه متنافذاً ومتداخلاً مع حقولٍ أخر، والحقيقة أن هذا الأمر لايعني انحيازاً مسبقاً للشعر بل يعني أن الشعرية هي مقياس الإبداع في النصوص الكتابية من حيث الاداء اولاً ومن حيث المضمون ثانياً ولذلك نشترط الشعر ملازماً للنصّ المفتوح فالنص المفتوح ليس جنساً جديداً مجاوراً الشعر بل هو جنسٌ شعري جديد له أنواع عديدة، إنه شعر قبل أن يكون أي شيء آخر، ولذلك لانرى في بعض نصوص السرد المختلفة عما هو سائد نصوصاً مفتوحة لأنها لاتقع في منطقة الشعر أصلاً.
الأمر الآخر الذي نودُّ أن نؤكده هو أنه بظهور النصّ المفتوح يكون تاريخ القصيدة قد انتهى أو أدى الى نمط لاعلاقة له بالقصيدة، فالقصيدة جنسٌ شعريٌّ هيمن على شكل ظهور الشعر لزمنٍ طويل جداً، والقصيدة بنوعيها الكبيرين (الموزون والمنثور) أي ( العمودي/ التفعيلة وقصيدة النثر) تكون قد وصلت الى نهاية انفرادها بالتعبير عن الشعر ويكون النص المفتوح جنساً منافساً للقصيدة في إنتاج الشعر وهكذا يضع النص المفتوح نفسه بمواجهة قصيدة النثر أيضاً فهو ليس امتداداً لها بل مفارقٌ لها وتوضع قصيدة النثر شاءت أم أبت مع قصيدة الوزن في خانةٍ واحدة لأنها قصيدة وليست نصاً مفتوحاً، فهل يمكننا القول أن زمن القصيدة أنتهى؟