الأحد، 12 يونيو 2011

الموت والآخرة والخلاص في الديانة المندائية


الموت والآخرة والخلاص في الديانة المندائية
/ د. خزعل الماجدي /
أولاً: مثولوجيا الموت Eschatalogy Myth
مثلما تميّز المندائيون بأساطير الخليقة الخاصة بهم فأنهم تميّزوا أيضاً بأساطير الموت والنهاية والفناء. فهم يرون أن عالم النور هو العالم الأساسي الوحيد في هذا الكون أما العوالم الأخرى فيعتريها الفساد والموت والفناء. وينسحب هذا على كائنات هذه العوالم. فالنور هو الذي لا يتفسخ ومنه صنعت كائنات النور أما كائنات الظلام فمصنوعة من الماء الأسود الآسن والطين واللحم..إلخ كذلك كائنات الأرض مصنوعة من اللحم والعظم والدم وهذه كلها موادٌ آيلة إلى التفسخ والموت.
الإنسان يحملُ في مادة جسده الفانية نسمة النور (نشمتا) وهي الوحيدة التي لا تموت ولذلك تخرجُ من الجسد بعد الموت لتعود إلى عالم النور، أما الجسدُ فيفنى.
إن أساطير خروج الروح ومحاولتها للعودة إلى عالم النور تشكِّل المتن الأساسي الأول في ما نسميه بأساطير الموت أو النهاية.
لكن عودة الروح وعروجها تشكّل نصف الدائرة بينما يشكل هبوط الروح من عالم النور إلى الجسد نصفها الأول في بداية خلق الإنسان. ولذلك تتكون دائرة الروح من نصفين مترابطين، وتكون أساطير هذه الدائرة مشتملة على مثولوجيا المبدأ (حيث هبوط الروح في خليقة الفرد) ومثولوجيا المعاد (العروج) (حيث صعود الروح بعد موت الفرد).
إن هذه الدائرة المثولوجية استحوذت على اهتمام استثنائي في الديانة المندائية فقد تكرّست كلّ نصوص كنزا اليسار ونصوص كتاب الأرواح (سيدرا إد نشمثا) وديوان أباثر والمسقثا وغيرها لتتبع أثر الروح من وإلى عالم النور، وظهرت بذلك نصوص أسطورية كثيرة حولها. كذلك انعكست هذه الأساطير على الطقوس والشعائر فتكونت مجموعة منها لتسهيل حركة الروح وطهارتها وذاكرتها.
في المعتقدات المندائية تنزل الروح (نشمتا) من عالم النور إلى الجنين وهو في بطن أمه عندما يكون عمره خمسة شهور تقريباً وهو ما يفسر بدء حركته في الرحم. هكذا يرى المندائيون هبوط الروح من عالم النور قبل الولادة، ولا أحد يعرف ما هي الآلية التي تدخل بها هذه الروح جسد الجنين ولكنها ربما تكون مشابهةٌ لأسطورة النزول التي سنفصّلها في المبحث القادم.
وتشكل دورة الروح المثولوجية للفرد الواحد صدىً أو تكراراً، بدا وكأنه طقسيّ، لحادثة الخليقة الأولى يوم نزلت الروح على يد مندا إد هيي وآدم كاسيا في جسد آدم. إنها دورةٌ مشابهة تتكرر مع كل إنسانٍ لكن صدى أول نزول يشكل نقطة البدء المثولوجية التي يلتفت المؤمنون لها دائماً ويتذكرون مع كل حمل ثم ولادةٍ خليقةُ جديدة مشابهة.
ويعتبر نزول الروح في جسد آدم بمثابة (الوحي) الأول القديم الذي حمل الحياة والمعرفة إلى جسد آدم، ومن هنا جاء دور مندا إد هيي في حمل هذا الوحي فاسمه يشير إلى (المعرفة والحياة) وبذلك تكون الروح المحمولة من قبل مندا إد هيي منطوية على جوهرين أساسيين هما (الحياة والمعرفة)، الحياة لكي نكون مثل بقية الكائنات أحياءً والمعرفة لكي نميّز ونعقل ما حولنا.
إن مندا إد هيي يأخذ مكاناً في (عقل آدم) و(أدكاس- مانا) وهذا البرهان هو هبوط (نشمثا) أو (أدكاس- مانا) في جسد آدم وهو مرتبطٌ بفكرة الوحي القديمة التي تتفق مع مفاهيم الأنثروبولوجيا  المعرفية القديمة. وبذلك تتعزز الفكرة التي تقول أن هذه المفاهيم المركزية للديانة المندائية هي في غاية القدم. (1)
يعتبر مندا إد هيي الرسول القديم (شليها قدماي) أي الرسول الأول، ورسول النور (شليها دنهورا) ورسول الحق (شليها كُشطانا).  ويعتبر كذلك رب المعرفة أو سيّد العرفان (ماري كشطا). لقد أوصل العرفان أو المعرفة الإلهية بواسطة الكلمة (قالا) التي هي الخالق نفسه.
وقد أخذ الإغريق مفهوم الكلمة (قالا) وترجموها إلى (لوغوس) (ومن لوغوس اشتقت مفردة "لغة" العربية). وكذلك فعل اللاهوتيون المسيحيون حينما قالوا أن الله هو الكلمة. ويتضح كم كان المندائيون يحملون مفاهيم عميقة في الفلسفة الدينية أثرت في غيرهم.
الوحي إذن هو الكلمة (قالا) و(لوغوس) وهو الخالق نفسه عند المندائيين. وأتى يوحنا كاتب الإنجيل بعدهم بمئات السنين ليقول في فاتحة إنجيل يوحنا "في البدء كان الكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله. كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان. فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس. والنور يضيء في الظلمة والظلمةُ لم تدركه" (2)
ولا شك أن كل من يقرأ هذا المقطع ويحملُ ثقافةً مندائية بسيطة لا يخطر في باله سوى عناصر المندائية المعروفة مثل: المعرفة (الكلمة)، الحياة، النور، الظلمة، ويدرك على الفور علاقة هذه الفاتحة بالديانة المندائية، وكل ما في الأمر أن يوحنا غير المعرفة إلى الكلمة وقد عرفنا أنها ترادفها تماماً.
إن مندا إد هيي هو حامل الكلمة وهو، بطريقة رمزية، الكلمة ذاتها لأنه يحمل المانا في جوهره (كما أوضحنا في توازيات الانثروبوغونيا). وسواء كان الكلمة أو حاملها فهو لوغوس المندائيين وهو الذي يقوم بالوحي وهو الرسول الأول.
أما بعد وفاة الإنسان فهو الذي يقوم بدور المخلِّص أيضاً، إذ أن مندا إد هيي هو الذي يزور الروح قبل خروجها ويذكرها بواجباتها ويعدها بأن يصعد بها إلى عالمها الذي جاءت منه وهو عالم النور.
"إنه مندا إد هيي نفسه
الذي ارتحل ذاهباً لكي يأتي إلى العالم
حقاً، إنه أخذني من الأرض
وانتزعني من الخدعةٍ والتلوين
هو أخذني من قرمة القدم
التي تشبه العالم الممتليء
هو حلّ وثاقي وأربطتي
التي هي طويلة إلى حدٍّ بعيد
هو خلع عني الثوب
المنسوج من كلِّ لونٍ ونوع
إن ذلكم الذي حلني تقدمني ذاهباً
أما ذلكم الذي كان قد ربطني فهو يتبعني ساعياً
إني مضيت واستندتُ إلى ذلك الذي حلّ وثاقي
أما ذلكم الذي كان قد ربطني فهو لم يدركني
إن الحياة استجابت لي من الأثمار
إن البهاء أجاب عليّ من بعيد
من مكانٍ جدّ بعيد
تطلعت أنا ناظراً فعرفتُ أبي"(3)
يطلق لقب (كبرا) أو (جبرا) أي الرجل على مندا إد هيي أما لقب جبرائيل فيطلق على ابنه هيبل زيوا وعلى بثاهيل، ولقب (ابن الحياة) (كاهنون هيي) ولقب (بهير زدقا) أي (ذو الصدقة الباهرة) فهو موزع الصدقات الذي يطابق مفهوم (الآدميين السماويين) وهو الاسم الذي يطلق على (الناصورائيين). ولننظر إلى الروح كيف تنادي على مندا إد هيي عندما تحول عفاريت الأرض والظلام بينها وبين الالتحاق بعالم النور:
"السبعةُ تحيطُ بالجسم من كل جانب
إنها تقعدُ جالسةً وتتحدث قائلةً:
إذا سولت لكِ نفسكِ وخرجتِ، أيتها الروح (نشمتا)
فسوف نقودك إلى الجباة
إذا فررتُ خارجةً وقفت العفاريت في طريقي
وإذا عدتُ من حيث أتيت، لا يجوز، إذ أن عددي قد تمّ
أين هي الحياة التي طالما كنتُ قد أحببتها أنا  (في ترجمة أخرى: أين هو ابن الحياة)
وأين هي الحياة التي كانت قد أحبتني؟
أين هو الرجل (جبرا) ذو الخبرة بالعدل والانصاف (بهيرا زدقا)
الذي باسمه كنتُ أنا قد دفعت الصدقات؟
أين هو مندا إد هيي
الذي  باسمه كنتُ أنا قد ذهبت إلى النهر؟
أين هو ماء النهر الحي
الذي طالما كنت أنا قد اغترفت من منهله السعادة؟
من منهله اغترفت السعادة
واستلمتُ الإشارة الطاهرة
أين هو المسرى الذي مشيتُ أنا عليه
وأين هي التحية التي ناولت يدي يدها؟
أين هما نعلا رجليّ
تانك اللتان وطأتهما بصحبة أصدقائي؟
أين تمضي ذاهباً، يا ربّ الكوشطا
وها قد تألبت عليّ العفاريت وأحاطت بجسدي؟
ها هي ذي العفاريت تحيط بجسدي من كلّ جانب
وعياني في رأسي تتخضبان بلونٍ آخر
أين أرفع عينيّ إلى العلياء متطلعاً
وإذا بي أبصر الرجل الذي هو عوني" (4)

ثانياً: مثولوجيا الآخرة Eschatolgy
الاسكاتولوجيا هو علم الموت والنهاية والآخرة ويتضمن أساطير وعقائد الموت وما بعد الموت من حساب وعقاب وثواب وجنة ونار..إلخ
ويمكن أن تكون الاسكاتولوجيا امتداداً لمثولوجيا الموت والفناء لأنها ستتناول الأساطير المتعلقة بمصير الروح والجسد والحساب والعقاب والثواب والجنة والنار وهي أمور درجت الأديان القديمة والموحِّدة على ذكرها كلٌّ حسب طريقته.
الديانة المندائية لديها تصورات واضحة جداً حول مصير الروح ومسارها وشكل الآخرة ولذلك فأن الاسكاتولوجيا المندائية غنية جداً وتحفل بالكثير مما يميزها تماماً.
هناك ثلاثة أنواع من الحساب تجري للروح وهي كما يلي:
1. حساب المحاكمة: ويجري هذا الحساب عندما تكون الروح في الجسد حيث يجري تنصيب قضاة من قبل عالم الظلام والكواكب السبعة لمحاكمة الروح، وعادة ما ينطق الحكم بسجن الروح في الجسد بسبب الشهود الكاذبين:
"مَنْ ذا الذي قذف بي بين الشهود الحيّالين؟
مَنْ ذا الذي قف بي وسط الشهود المخادعين؟
الذين لا يملكون حتى ذرة من الاستقامة والصدق؟ " (5)
ولذلك يأتي تحذير عالم النور للروح عندما تهبط بالجسد بأن محاكمتها قد تجري أولا تجري ولن يحكم عليها بالعدل لأن عدالة عوالم الأرض والظلام مزيفة:
"إنك لن تذهبي إلى المحاكمة
ولن يحكم عليك بالعدل
لا، لن يحكم عليك بالعدل
إذ أنكِ مارست القيام بأعمال رجلٍ صادق
ما تتحملين أ،تِ إياه هنا وتصيرين عليه
لن تجديه أمامكِ، أيتها المختارة
فرّي هاربة من عنف وجبروت
الكواكب ذوات السلطان في هذا العالم" (6)
2. حساب بحر سوف: بعد أن تخرج الروح من الجسد فإن أول تحدٍ يواجهها هو بحر سوف السماوي (الذي يقابله البحر الأحمر على الأرض) فإذا كانت الروح مثقلة بالأخطاء فإنها ستغرق في هذا البحر ولن تجتازه صعوداً إلى نهر هيتبون. وإذا غرقت الروح في بحر سوف فإنها ستنحدر إلى عالم الظلام في عبادين السفلى وستقضي حياتها سجينة هناك مع كائنات الظلام وقد تعذب بالنار والماء الحار. أما إذا كانت الروح قليلة الأخطاء فأنها ستواصل الصعود خلال منازل الحراسة.
3. حساب الميزان (أباثر): وهذا هو الحساب الأخير قبل الصعود إلى عالم النور وفيه يتم وزن الروح من قبل الملاك أباثر حيث توضع الروح في كفّة ويكون شيتل ابن آدم في الكفة الأخرى. فإذا كانت أخطاء الروح قليلة جداً فأنها تصعد إلى عالم النور، أما إذا كانت هناك أخطاء معينة فأن الروح تنزل إلى واحد من منازل الحراسة بما يناسب ذنبها (وسنشرح ها مفصلاً) وتقضي زمناً طويلاً هناك وربما تعود إلى عالم النور:
"إن الميزان قد نُصب أمامه
وهو يزن الأعمال والأجر
إنه يزن الأعمال والأجر
ويجمع الروها (النفس) مع نشمتا (الروح)
إذا ما وضع هو أحداص على الميزان وأثبت هذا بأنه مستوفٍ للشروط
عندئذٍ سوف يرفعه المرؤ عالياً ويمنح إياه سنداً ودعامةً في الحياة
أما إذا وضع هو أحداً على كفّة الميزان وأثبت بأنه غير مستوفٍ للشروط
فسوف يستبقيه في هذا العالم" (7)
أما مدرج صعود الروح فسنتعرض له بالتفصيل مع دائرة الروح كلها.
إن العقاب والثواب جاءا على قدر أخطاء وحسنات الروح في تجنبها للشر والانغماس في الحياة الدنيوية الزائلة وفي قدرتها على تذكر أصلها وعدم تضبب رؤيتها لعالم النور وهي مقرها الأول والأخير، وعليها أن تُدرك طبيعة العالم (الأرضي) التي هي فيه:
"إني أنا مانا الحياة الكبرى
الذي يسطع بهياً خلال تسبيح من خلقني
عندا جلبوا هم إياي إلى الأسر
عندما بعثوا هم بي إلى العالم وجلبوا إياي
فقد بعثوا هم بي إلى عالم القتلة والسفّاحين
إلى أولئك المقطعين المعرضين للهلاك جميعهم
إلى العالم الذي هيئته قبيحة
ومريبة لا ينير
إن خدمهُ ليس لديهم طريقة للسير
وجميع مخلوقاته خالية فارغة من البهاء
إنهم ليسوا لطفاء وليسوا هادئين
وما من رابطة مشتركة تجمعهم بعضهم إلى البعض الآخر
مظلمة داكنة هي أشكالهم.." (8)
لقد طوّر المندائيون صورة خاصة بهم للحساب والعقاب والثواب لم تكن موجودة في تراث وادي الرافدين الذي سبقهم من سومري أو بابلي أو آشوري، كذلك فإنهم لم يتأثروا كثيراً بصورته عند المصريين القدماء (باستثناء ميزان أباثر الذين يشبه ميزان أوزريس) والحقيقة أننا لا نملك سوى الصور البارسية والمجوسية القريبة من الصورة المندائية لكننا نرجّح أن الصورة المندائية هي الأقدم وهي أصل تلك المفاهيم الأسكاتولوجية الجديدة.
الجنة والنار عند المندائيين:
الجنة أو الفردوس عند المندائيين تختلف تماماً عن مثيلها عند الأديان الأخرى فهناك في الأعالي فردوسان علوي وسفلي هما:
1.    الفردوس الأعلى: وهو عالم النور الذي تسكنه الكائنات النورانية ويحكمه الحي العظيم بحكمته ونوره ويكون سكان هذا الفردوس من الأثري ويضم الأثري العظام وخصوصاً الحياة الأولى ومندا إد هيي، ويتكون من عشر طبقات سبق وأن شرحناها. وهو عالم السعادة الحقيقية، العالم المثالي الأول الذي بصعد إليه الأرواح المؤمنة للناس، وفي هذا العالم لا يوجد ظلام أو موت أو ظلم أو قه فهو العالم الذي تطمح إليه العوالم الأخرى لكنه فردوس الكائنات النورانية فقط.
يتكون من أربعة عناصر كبرى هي (النور، الحياة، الماء، الأثير) وهناك درجات متفاوتة من كل عنصر فالنور مثلاً يتكون من أربع درجات هي (يورا، الضياء، النور، الضوء)..إلخ
وفي غرفة الكنز توجد الأرواح المكنوزة التي صعدت أو التي ما زالت تنتظر النزول. وتستقر في عالم النور الأجسام النورانية للبشر. ويتناظر هذا العالم مع عالم الظلام كما أوضحنا في السلسلة الثيوغونية. يوتكون من ثلاث أراضٍ هي (النور، الأثير، تروان).
2.    الفردوس الأدنى: وهو عالم الحق والعدل (مشوني كوشطا) الذي هو العالم المثالي الثاني بالنسبة للأرض. أي أنه يناظر عالم الأرض ففيه (دموثا) من كلّ ما في الأرض ويحكم هذا العالم الأثري (شيشلام ربّا) أي (السلام العظيم) وهو كائن نوراني عظيم يناظر (هيبل زيوا) الذي تولى مسؤولية الأرض من عالم النور ويسكنه آدم كاسيا وحواء كاسيا وأحفادهما.
وترى ليدي دراور أن هيبل زيوا هو مكوّن الأرض ومشوني كوشطا بتوجيه من الحي العظيم. المعنى الحرفي لمشوني كوشطا (الحق الذي رفعناه نحنُ). وتستقر في هذا العالم الأجسام الأثيري للبشر وهي (دموثا) الأجسام الأرضية. ولا توجد (نشمثا) في عالم مشوني كوشطا بل الأجسام الأثيرية التي تركتها الروح واستقرت في الأجسام النورانية الصاعدة إلى عالم النور. وفي هذا العالم هناك (دموثا) أو أشباه لكل الوحوش والنباتات والحيوانات والبشر، وهؤلاء يتزوجون كما في العالم الأرضي لكن دون ظهور نجاسة منهم.
أما موقع هذا العالم فهناك ثلاثة آراء حوله، هي: (9)
أ‌.        يقع في الشمال ويفصله عن هذا العالم جبل عالٍ من الثلج.
ب‌.  يرى الشيخ هرمز بر أنهر بأنه في المريخ وسكانه شبه روحيين وأصغر منّا حجماً.
ج‌.    في الشمال وراء منطقة الجليد والثلج حيث النور الدائم وحيث يمكن لسكانه أن يتخاطبوا مع الملكي والأثري وأن يشاهدوهم.
أما الجحيم أو النار عند المندائيين فنرى أنها تنقسم إلى مكانين أيضاً:
1.    الجحيم الأعلى: وهو الأرض (تيبل) التي تناظر عالم مشوني كوشطا. وهيبل زيوا أو بثاهيل احدهما أو كلاهما خلق الأرض. وتحكم هذا العالم الكواكب السبعة والأبراج الاثنا عشر والكواكب الخمسة والروها. ويحاول الإنسان في الأرض أن يقيم الحق ويشعّ بروحه نفحاتٍ من عالم النور لكن هذا العالم مليءٌ بالشرور.
2.    الجحيم الأدنى: وهو عالم الظلام الذي يتكون من ثمان طبقات وتحكمه (روها) وهو يتكون من ثلاث طبقات من الجحيم هي عبادين العليا والوسطى والسفلى، وتسمى أيضاً شيول وجهينا وفي هذا الجحيم تتعذب الأرواح الخاطئة التي غرقت في بحر سوف وانحدرت إلى هنا. ويبدو أن الأرواح لا تبقى هنا إلى الأبد في عذاب أزلي بل سترتفع، ذات يوم، إلى عالم النور بعد أن تتطهر من خطاياها وتكفّ عن الانحدار إلى قبول خطايا جديدة ولنستمع إلى مندا إد هيّي وهو يخاطب إحدى الأرواح الخاطئة المحبوسة في باطن شيول:
"أيتها الروح (نيشمتا)! عندما هتفت بكِ منادياً فلم تجر أنت جواباً
والآن وها أنت بنفسكِ تنادين فمن عساه يجيب عليكِ؟
لما كنتِ قد أحببتِ الذهب والفضة دون غيرهما
يتعين عليكِ أن تكوني حبيسةً في باطن شيول
لما كنتِ قد أحببتِ التصور والخدعة
يتعين عليكِ أن تسقطي في القدور حين تفور هذه وتغلي
ولكن إذا أنصدّت نفسكِ عن الجرائر
وانتهت كل خطاياكِ وانقلبت إلى حسنات
فسوف تصعدين على سلم الإرتقاء عالياً
ذلك الذي ارتقى عليه الكاملون قبلك إلى العلياء
أما إذا لن تصدّ نفسكِ عن الجرائر
ولن تنتهي كلّ خطاياكِ ولن تنقلب إلى حسنات
فسوف تموتين، أيتها الروح (نيشمتا)، موتاً ثانياً
وعيناكِ لن تريا النور أبداً " (10)
هناك إذن موتٌ ثانٍ هو موت الروح نهائياً، فالموت الأول هو موت الجسد وخروجها منه وسقوطها في الجحيم شيول. أما الموت الثاني فهو عدم صعود الروح إلى الأعالي وهي في الجحيم بسبب عدم قدرتها على التطهر. أي أن البقاء الأبدي للأرواح الخاطئة في شيول هو الموت الثاني.
هناك إمكانيةٌ لأن ترتقي الأرواح الخاطئة في شيول إلى عالم النور بعد تطهرها. لكنها إذا لم تتطهر فستبقى إلى الأبد هناك وربما تذوب أو تحترقُ في مكونات الجحيم.

ثالثاُ: مثولوجيا الخلاص  Soteriology
تطرقنا في أكثر من مكان لموضوع الخلاص، لكن هذا الموضوع يدرسه علمٌ خاص هو السوتيرولوجيا الذي يركزّ على أنواع الخلاص خلال الحياة وبعد الموت بشكل خاص، ويسهبُ في مناقشة أنواع المخلّص وطرق الخلاص في كافة الأديان.
إن فكرة الخلاص الدينية فكرة قديمة جداً تمتد إلى السومريين عندما كان يعتبر بعث دموزي خلاصاً من الشتاء والقحط وموت الزرع وبشيراً بالربيع والخضرة والخصب. وتحوّل (دموزي) إلى أول مخلّص في تاريخ الأديان، وجاء بعده أشباهه (تموز، أوزوريس، أدونيس، أتيس، ديونيزيوس، أورفيوس..إلخ)
وتحولت الأديان الخلاصية القديمة إلى أديان وفرق ومعتقدات سرّية في كلّ الأمم كانت تحوي في جوهرها عقيدة خصبية دفينة يجري حولها مبدأ الخلاص، وكانت الآلهة الأم تلعب دوراً مهماً في هذه الطقوس والشعائر مثل الإلهة ننخرساج والأم السورية والإلهة الفريجية الكبرى (سيبيل) والإلهة المصرية (إيزيس) والإلهة (أناهيت).
وفي الأديان الغنوصية ازدادت أهمية (الخلاص) بل أصبح هو جوهرها وأصبح انتظار الإله الصانع (وهو الإله الثاني في المرتبة بعد إله الكون الأول) أساس الخلاص في هذه الأديان وهو ما يسمى بالعرفان حيث تعرف النفس أصلها السماوي وبأنها لا علاقة لها بهذا العالم بل هي جزء من عالم أسمى منه وهو العالم السماوي الذي نزلت منه وحلت في الجسد الفاني وقد يتم خلاصها بواسطة مخلّص ملاك أو إله فادي (المسيح).
تقول المدونة الهرمسية التي هي أحد أصول فكرة الخلاص الغنوصية:
"قال: لقد فهمت فعلاً أيها الصديق. ولكن لماذا كان (من عرف نفسه يعود  إلى نفسه) كما قال الله فأجبتُ: لأنه من النور والحياة ربّ كل شيء، الرب الذي أنجب الإنسان. قال: أنت تقول: النور والحياة ذلك هو الله الأب الذي منه كان الإنسان فإذا تعلمت أن تعرف نفسك بوصفكَ مصنوعاً من الحياة والنور ومكوّناً  من هذين العنصرين فإنكَ ستعود إلى الحياة. ذلك ما قاله بوامندريس" (11)
كانت النصوص المندائية هي السبّاقة في تحديد المعنى الدقيق لخلاص الروح فقد كرّست نصوص كنزا ربّا اليسار كلها للتفصيل في موضوعة الخلاص وارتفاع النفس إلى عالم النور.
تتركز فلسفة الخلاص الغنوصية، بشكل عام على أن الإنسان غير قادر على اكتساب المعرفة العالي التي تنشدها الغنوصية، وإنما تصله من خلال وسيط سماوي، منقذ، مخلِّص توكل له مهمة الهبوط إلى العالم السفلي لإرشاد البشر، أو بالأحرى، إرشاد النخبة، إلى طريق الخلاص. والجانب العملي في اكتساب هذه (المعرفة) هو مجموعة الطقوس والفروض الدينية التي تطهِّر الفرد والتسلّح بالأسماء السرّية التي تؤلف بمجموعها جواز المرور الذي يسمح للنفس البشرية تخطي الحواجز الكونية التي تقيمها قوى الظلام أمام النفس. والنفسُ في طريقها وهي تعرِّج نحو السماء تنزع عنها عند كلِّ نطاقٍ أو حاجز الرداء الذي يغطيها وبهذا تتجرد عن كلّ شيء  غريب كان يغطيها حتى تصل إلى ملكوت الله في ما بعد الكون وتتحد هناك بالجوهر المقدس الذي انفصلت عنه من قبل وهو العقل الإلهي. (12)
ولاتخرج النظرة المندائية للخلاص عن هذا الفهم من حيث الجوهر فالنفسُ تتسلح، منذ بداية هبوطها، بأسلحة الإيمان والعرفان والكوشطا وتبقى يقظة حذرة من مؤامرات وإغواءات عالم الأرض والكواكب والروها والفاسدين على الأرض، وتكون مستعدة للخلاص ساعة انفصالها عن الجسد عن طريق مخلصٍ يأتي إليها من عالم النور. ويكون المخلص، في الغالب، هو مندا إد هيي أو (أثري) يبعثه من طرفه.
ويسمى المخلّص في نصوص كنزا اليسار أحياناً بالرجل (كبرا) الذي يشير أيضاً إلى مندا إد هيي وأحياناً بمساعدة أو معاونة الكبير. ويظهر المخلِّص أحياناً وكأنه هيبل زيوا وربما كان هناك أثري ثلاثة من أجل رفع الروح إلى الأعالي:
"الأثري الثلاثة أسندت المانا
وهو، المانا، وجد سكينةً وراحةً في التنوير
هو، المانا، وجد في التنوير، راحته وسكينته
 إنه يحتفظ بقوةٍ براحته وسكينة باله
إنه يتمسك براحةِ باله بقوةٍ
ويصير محتملاً ويعيش ساكناً في العالم
في العالم الذي ما من نهايةٍ لشدائده ومكارهه
إنهم أمسكوا المانا بكل ما لديهم من قوّةٍ
وأحاطوه ورفعوه بقوةٍ بأيديهم كلتيهما
إنهم رفعوه من الجسم
وقاموه في موضعه
إنهم فتحوا له باب النور
وأبصروه طريق الأمان.." (13)
إن الخلاص المندائي يتم عندما تتحرر الروح (نشمثا) من الجسد الأرضي حيث تنتقل إلى جسد أثيري وترتفع بواسطة المخلص ومساعديه إلى الأعالي، فإن اجتزت بحر سوف ونهر هيبتون ثم منازل الحراسة ثم الجبال وغيرها بسلام فإنها تنتقل إلى الجسد النوراني، أما جسدها الأثيري فيذهب إلى عالم (مشوني كوشطا) وهناك يتداخل مع شبيه الجسد (دموثا). أما الجسد النوراني الذي يصعد إلى عالم النور فأنه يتداخل مع شبيه الجسد (دموثا) في عالم النورويسمى (سطونا) ويتداخل معه.
إن الخلاص المندائي ظل روحانياً. أثيرياً نورانياً بينما جسّد الخلاص المسيحي (المخلّص) وحوّله إلى إنسان ملموس جاء لينقذ البشرية كلها بالتعاليم، فما كان من البشر الأشرار إلاّ والقبض على المخلّص السماوي وصلبه فتجسدت هنا صفة الفداء، ثم قام المخلّص (المسيح) بالصعود إلى العالم السماوي. لقد حوّلت المسيحية فكرة الخلاص من فكرة مثالية مجردة إلى فكرة ملموسة وأضافت لها دراما الصلب والفداء فبدت أكثر تراجيدية وأكثر شعبية، وكان هذا أحد عوامل انتشارها. خصوصًا أنها ذكّرت بالخلاص القديم لديموزي وأوزوريس وأدونيس وهو خلاص حسيٌّ مجسدٌ أيضاً فكان هذا سبباً كافياً لأن تذرف الجماهير الدموع وتتبنى المسيحية.
أما مندا إد هيي أو هيبل زيوا أو أنوش أثرا فقد ظلّوا في المندائية دون تجسيد محافظين على الصورة المثالية لهم تلك التي قررتها الديانة المندائية منذ زمن بعيد.
إن خلاص الروح البشرية من عذاب المادة وأسرها ينقسم في الأدبيات الغنوصية والهرمسية على أساس صوفي إلى نوعين: أولهما التصوف بالانتشار Extraversion Mystic الذي يخرج فيه الإنسان من ذاته ليتّحد بالله الذي يتصورهُ فيذوب ويفنى في الله. أما الثاني فهو التصوف بالانكفاء Intraversion Mystic حيث يحل الله في النفس ويغزوها ويتحول الإنسان إلى كائن جديد وهو ما يسمى بالحلول.
إن المندائية لم تطور نظاماً خاصاً للتصوف ولذلك لا وجود فيها للفناء أو الحلول أو تصوف الانتشار وتصوف الانكفاء. فالمندائيون لا ينظرون للروح على أنها جزءٌ من الله بل هي الله الذي حلّ في الإنسان وجعله يتحرك ويرى ويعرف ويعقل. إنها الـ(مانا) الذي هو جوهر الخليقة النورانية وهو الشكل المتجسد للحي العظيم.
ليس هناك فناءٌ للروح في الله عند المندائية وليس هناك حلولٌ لاحق يُحققهُ التصوف. بل أن الروح هي الله نفسه الذي حلّ في الجسد البشري ويجب خلاصه. فلا حاجة للروح بالتصوف (الفناء أو الحلول) بل تحتاجُ إلى أداء الطقوس والتذكر دائماً بأنها من أصل إلهي.
لا شك أن فكرة الخلاص المندائية تنطوي على مفاهيم أكثر مثولوجية ظلت كما هي دون أن تُنضجها الممارسات التي حققتها لاحقاً الأديان والمذاهب الغنوصية. ولنتلمس تلك العناصر الأسطورية النيئة التي تذكرّنا بأدبيات وادي الرافدين السومرية والبابلية في هذا المقطع من كنزا اليسار حيث تتحدث الروح:
"باسم سيدي مندا إد هيي
وبقوته ولجت أنا ودخلتُ في الجسد
إني دخلت وولجت في الجسد
ورضيت أن أكون حبيسةً في القصر
من ذلك اليوم الذي ولجتُ فيه أنا بالجسد
أصبحت زوجته على مرّ العصور
إنني صرتُ زوجة له على تعاقب العصور
والشياطين سخطوا عليّ من الأعماق
من الأعماق غضبوا الشياطين علي
وهم يتمنون بأن روح (نيشمتا) الحياة تذهب منهم"(14)
قد يرى البعضُ أن الكنهة المندائيين والناصورائيين يشكّلون طبقة صوفية في الديانة المندائية وهذا غير صحيح مطلقاً لأن هؤلاء الكهنة لا ينعزلون عن الناس ولا يتقشفون لا يظلون بدون زواج ولا يمارسون طقوساً خاصة تشجع الفناء والحلول، لكنهم يحافظون بدقة على تفاصيل الطقوس وهو ما يميزهم ويُظهرهم كرجالٍ متشددين.
يشكّل (الشفيع) ركناً أساسياً من نظام الخلاص الغنوصي حيث الإله أو النبي أو القطب يكون أساساً لشفاعة الأرواح في يوم الحساب أو الآخرة. ويغيب هذا الركنُ من نظام الخلاص المندائي بالمعنى الذي نعرفهُ في الأدب الغنوصي. لكنّ شخصية المخلص، بحد ذاها، يمكن أن تكون شفيعاً، رغم أن هذا الشفيع لا يمكن له أن يقوم بدورٍ خارج عن الحدود فهو لا يستطيع حمل هذه الروح دون المرور بمرحلة الميزان وهو لايستطيع أن يحذف خطيئة واحدة. إنه يقوم بحمل الروح فقط وتهيئة الطريق لها وجعلها لائقة لرحلة العروج القادمة.
"بينما يقف المانا في مكانه ويبحث لنفسه عن توضيحات وشروحٍ
وإذا بمساعده يدلف عليه قادماً
إن مساعده الكبير جاء إليه قادماً
ثم أخذ هذا عدّته ووضع له علامة إرشاد
أخذ هو عدّته ونصب له علامة إرشاد
وفي مقدمة العلامة بنى له سدّاً
إنه كان له مساعداً
إنه كان له هاتفاً
إذا نام غفا أوقظته صلاته
وإذا تعثر وسقط أنهضهُ تسبيحه وأقامه
إذا ضربته السبعة
صارت له قوته الخفية دواءً وشفاءً
إنه أصبح له طبيباً
هو يرفعه عالياً ويضعه على قدميه
إنه يمهد له طريقاً ممهداً (مذللاً)
إنه يبصره ويسوّي له الدرب
ويبني له ممراً لكي يصعد (المانا) إلى مكانه عالياً" (15)
والحقيقة أن السيترولوجيا المندائية تمتلك من الخصوصية ما لا نجد لها مثيلاً في السيترولوجيات الغنوصية وغير الغنوصية الأخرى، ولو أننا دققنا في كلّ أشكال نظامها الخلاصي لوجدناه بكراً جديداً خاصاً بها أولاً.


المصادر والمراجع


1.    رودولف، كورت: النشوء والخلق في النصوص المندائية. إعداد وترجمة الدكتور صبيح مدلول السهيري، جامعة بغداد، بغداد/1994 ص180
2.    الكتاب المقدس: إنجيل يونا 1: 1-5
3.    كنزا ربّا اليسار: 3: 42 ص632-633
4.    نفسه: 3: 36 ص624
5.    نفسه: 2: 23 ص325
6.    نفسه: 3: 4 ص548
7.    نفسه: 3: 52 ص650
8.    نفسه: 2: 21 ص520
9.    دراور، ليدي: الصابئة المندائيون (الكتاب الأول) ترجمة نعيم بدوي وغضبان الرومي، الطبعة الثانية/ مطبعة الديواني، بغاداد 1987 ص112
10.كنزا ربّا اليسار: 3: 57 ص658-659
11.الجابري، محمد عابد: بنية العقل العربي/ ط3/ المركز الثقافي العربي، بيروت 1991 ص267
    12. سباهي، عزيز: أصول الصابئة (المندائيون) ومعتقداتهم الدينية، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق 1969/ ص147
    13. كنزا ربا اليسار: 2: 27 ص534
    14. نفسه: 3: 1 ص543
    15. نفسه: 2: 12 ص494-495