الجمعة، 10 يونيو 2011

"أحزان السنة العراقية"



"أحزان السنة العراقية"* نصوص جديدة للشاعر خزعل الماجدي:
عندما يموت العالم تولد اللغة



جهاد الترك
من على حافة الهاوية، وفي اللحظات القليلة التي تسبق الارتطام بقعر الجحيم. وفي المشاهد التي تعقب الاستسلام للتحولات الكامنة في هذه الدوامة، يتجرأ الشاعر العراقي، خزعل الماجدي، على الاقتراب من الحد الفاصل بين الدهشة والدهشة. يتجلى ذلك في نصوصه الجديدة بعنوان "أحزان السنة العراقية" الصادرة حديثاً عن "منشورات الغاوون" في بيروت. تتجاوز هذه المجموعة الثمانمئة صفحة من القطع الوسط موزعة على مئات من العناوين. ينتشر كل منها على مساحة قليلة من جسد المعنى، ولكن عميقة مترامية الأطراف في فضاء مكثّف من دلالات في اللغة والصورة والايحاءات الناتجة منهما. ولعل هذه الكثرة الكثيرة من النصوص التي ينطوي عليها الكتاب، تُعزى، بشكل أو بآخر، إلى محاولة الشاعر الذهاب بعيداً في استكشاف المتاهات المتدفقة من ايحاءات الصورة أكثر منها الغوص في ذاكرة المفردات، أو في ما تشتمل عليه اللغة من تطلع إلى حقائقها المحتملة المتناثرة على الطريق إلى المجهول. كل من هذه النصوص التي تشكل أفقاً منفتحاً على ذاته الافتراضية، وأيضاً على دلالاته الافتراضية، يداهم جزءاً يسيراً من جسد القصيدة. من حواسها التي يتداخل بعضها في بعضها الآخر. من الشكوك التي تخيّم على طبيعة هذا الجسد المتحول. من التذمر من الأدوات المحدودة للغة بغية فك عزلتها من أسر المفردة الواحدة وإعادة صوغها بذاكرة متجددة مغايرة. حتى إذا جمعت هذه النصوص التي يتطرق كل منها إلى زاوية معتمة في جسد القصيدة، أصبح ممكناً التعرف إلى الصورة الشعرية في أشلائها المتآلفة حيناً، المتعارضة حيناً آخر. ومع ذلك، لا يبدو أن هذا "الجسد" منكفئ إلى جسده. مطمئن اليه. مكتفٍ به. غالباً ما نلحظ تبرّم الجسد من جسده. نفور الجسد من جسده. وكأنه ليس له. من هنا، ينهمك الماجدي في بحثه المضني عن جسد محتمل لقصيدته لا يبدو أنه يعثر عليه إلا في فضاء من التحولات الشعرية المتحركة في كون غامض من اللغة الغامضة.

ومع ذلك، ليس المقصود بهذا الغموض، المعنى الذي يتخذ من الإبهام ملاذاً غير مشروع عندما يرتد عن عتبات الصورة الشعرية لعجز بنيوي في مقاربة العالم والأشياء والكون لإعادة صوغها من جديد. الأرجح أن ما تنبغي الإشارة اليه، على هذا الصعيد، أن الغموض الذي يرتحل الشاعر اليه لا يعدو كونه تلك الحالة التي يضطر إلى زيارتها من جديد ولكن على نحو أبعد قليلاً أو كثيراً من التجوال الأوضح في ذاكرة المعنى والمفردات. والسبب في ذلك، أن النصوص جميعاً المدرجة في هذه المجموعة منكبة على إعادة تمثل المأساة العراقية حيث يتكدس الجميع في خانة الضحايا، وفي خانة "الأبطال" أيضاً الذين تترقبهم الهزيمة في مكان ما لتحيلهم رماداً يتدفق بغزارة إلى متاهات العدم. ولأن الأمر كذلك، لا يجد الماجدي بداً من الدوران حول الدلالات التي سبق له وضمها إلى منظومة مشاهداته. ولذلك يعود اليها على الدوام، أو كلما دعت الحاجة إلى ذلك.. تتحول هذه الأخيرة، على وجه التحديد، جزءاً لا يتجزأ من أدواته الضرورية ليستكشف فيها من الصور والايحاءات ما استعصى عليه في المرات السابقة. يتحول الغموض، في هذا السياق، ضرباً من الانحياز إلى الوضوح. ولعله يجد نفسه مشدوداً إليه بقوة كبيرة من الاندفاع من أجل أن يتوصل، قدر المستطاع بالصورة الشعرية، إلى قراءة أعمق في المشاهد المذهلة لهذه المأساة المتشظية في أرجاء المفردة والصورة والذاكرة.
تجربة الغموض
الغموض، في هذا الإطار العنيف من المعاني المستولدة، بهدؤ أو على عجل، هو التجربة الأهم في هذه النصوص، على الأغلب، لإزالة الغموض عينه عن هذه المأساة المغرقة بلعنة الأقدار القاسية. وكأنها تحولت نمطاً من الغرابة التي لا تعبر عن نفسها إلا بالانتقام من الجميع من دون استثناء. تماماً كاللعنة التي تنفلت شياطينها من المجهول، ثم تروح تمارس موهبتها الفائقة في إشاعة الخراب في العالم. العراق في فضاء هذه المجموعة هو المرادف الشعري للعالم وقد تحول سرداباً سفلياً منفتحاً على الموت. ولعله منفتح على الفناء، على استئصال الحياة من ذاكرة الإنسان حتى لا تعود له قيامة من جديد. وعلى نحو مماثل، يتحول العراق، في خضم هذا الانهيار المروّع مرادفاً آخر للغموض يتجرأ الشاعر على الاقتراب منه بغية قراءته في عمقه الشعري إذا جاز التعبير. والنتيجة المرجحة في هذا الفضاء العراقي المنكشف على تصدع متغلغل في متاهته الداخلية، هي ذلك الثالوث غير "المقدس" المكون من العالم والعراق والخراب القادم من المجهول بإيقاع اللعنة.
كل من أطراف هذا الثالوث هو الآخر المتجلي في الآخر. العراق هو النموذج "الأنقى" والأكثر دلالة وتعبيراً عن استيقاظ غريزة الفناء من قبرها المهجور في ذاكرة العالم. الخراب هو النموذج الأكثر استجابة لذاكرة الفناء وقد خرجت للتوّ من تحت التراب إلى فوقه لتحيل العالم غباراً عفناً لتراب عفن. العالم هو المكان المفضل لتخيّم عليه أشباح هذه الذاكرة، فتكتسحه من أقصاه إلى أقصاه فتحيله شكلاً موحداً ينقضّ على نفسه يتآكلها. ثم يأكلها. ثم يأكل ما تبقّى منها. ثم ينتج شكلاً آخر أكثر أيغالاً في ذاكرة الفناء. ثم يبدأ التهام أشرس وأكثر ايلاماً من الموت.

الثالوث غير المقدس
الأرجح أن الماجدي يذهب بنصوصه إلى هذا الثالوث الذي ينطلق من العراق لينتهي عند البوابات المتقدمة للفناء. وقد راعه هذا المشهد وخلّف فيه نوبات من القشعريرة. غير أنه يحجم عن النظر إلى قعر الجحيم حين تستدعيه ألسنة اللهب إلى مراقصتها على وقع الرماد المحتوم. يستدعيها هو إليه ليراقصها بإيقاع اللغة، على مقربة من الضفاف القريبة من ذاكرة متشحة بالسواد، غير أنها متأهبة في الوقت عينه لتخترق مدار الرعب نحو ملاذ اللغة وهي تستكشف الحقائق المحتملة بدلالات الصورة الشعرية. وأيضاً بالدهشة المتسللة إلى الذاكرة بغية الاقتراب من مرادف آخر متحول للثالوث المذكور. وعلى حين يبدو، في النصوص، أن كلاً من أطراف هذا الثالوث (العراق، العالم، الفناء) يؤدي إلى الآخر، والثلاثة مجتمعة تؤدي إلى الذاكرة المستوطنة في الرماد، فإن المشاهد المنكشفة على هذا الثالوث، تبعث في الوقت عينه على انكشاف أكثر دهشة على نمط من اللغة التي نجت بنفسها، ثم راحت تبحث عن نفسها وراء جدار الرعب إلى حيث تتحول المفردات ضرباً من قيامة متحولة لعالم مستحيل، في الأساس، ممكن في الصورة الشعرية المتحولة. خزعل الماجدي، وجهاً لوجه، أمام هذه اللغة الآتية مع رائحة الخراب المتنقلة في أرجاء العراق. لغة تخشى على نفسها من السقوط في مستنقع الرماد قبل أن تستجمع في ذاكرتها ما يمكنها من تفكيك المأساة العراقية لإعادة تركيب العالم، على وقع الصدمة أولاً، ومن ثم استيعابها في الرؤية، في المحل الثاني. منظر الرماد المتنقل في العراق كالرمال المتحركة، يوظفه الشاعر حافزاً حقيقياً للتنقل باللغة من فضاء إلى فضاء. من استشراف إلى آخر. من يقظة إلى أخرى.

مشاهد الخراب
ومع ذلك، هل يقيّض للماجدي أن يتمكن من توظيف هذه التقنية واستخدامها معادلاً موضوعياً لمشاهد الخراب الجارف في المأساة العراقية؟ الأرجح نعم، وإن تكللت النصوص برداء من النزعة الغنائية الحزينة التي تطغى على الرؤية الشعرية. قد يبدو، للوهلة الأولى، ان هذه الغنائية التي تقرب من بكائية مستساغة مكشوفة على تصدعات في المشهد وجروح في ذاكرة اللغة لا تندمل، من شأنها أن تنتقص من الصورة الشعرية الباحثة عن ظلالها في الأمكنة السحيقة من الدلالات المشهدية. ولعل الأمر كذلك لو لم يقدم الماجدي على تدارك هذا التدفق لأحاسيس الحزن المروع وذلك الانحسار لمكونات الرؤية الشعرية المتحولة. كيف يعالج هذا التدفق، من جهة، وذاك الانحسار من جهة أخرى؟ يفعل ذلك، على الأغلب، من خلال توظيف طاقة الحزن العارمة التي تسكن النصوص جميعاً من دون استثناء، في مجال الاصطدام المباشر بالمفردة المثقلة بالمأساة ومن ثم حملها، بالايحاء، على أن تصبح مرادفاً لهذه الحالة من الداخل، بدل من أن تكون مقصورة على وصف الحزن من الخارج. عادة ما يلجأ الماجدي إلى توظيف هذه المعادلة المعقدة من أجل أن يجنب رؤيته الشعرية الغرق المؤكد في حالات حادة من الانفعال توهم صاحبها أنها من جنس المشهد الشعري المتحول. ومع ذلك، ثمة خيط رفيع فاصل بين هذه وتلك. بين الصورة التي تقرأ عميقاً في جحيم المأساة للنفاذ من جدار الرعب إلى الدهشة المتأتية عن هذا المشهد في اللغة. ولعله لا يسعى فقط إلى جعل مشاهد الرعب والقلق ذات مردود يصب في دهشة الصورة الشعرية، بل أن يعيد صوغها على نحو تتحول فيه اللغة استنهاضاً للغة نفسها وتوسعاً ملحوظاً في فكفكة رموز الغموض للاقتراب من العالم في حركته الداخلية.
التسويات الناقصة
ان البحث عن دلالات المأساة في اللغة المتحولة أو المحتملة إذا جاز التعبير، لا يخفّف من وطأتها أو يعجّل في الشفاء منها، أو يمكّن الذاكرة من أن تبرأ منها. لا يرغب الماجدي في أي من هذه ولا يمنّي النفس بأي من هذه الأوهام المخادعة. لم يعد بمقدوره، وفقاً لما توحي به النصوص، أن يتوصل إلى أي من هذه التسويات الناقصة. على النقيض من ذلك، بات مستعداً ليعقد اتفاقاً من نوع آخر، يتمثل، كما سبقت الاشارة اليه، في أن الخراب الشامل في العراق هو تعبير عن انتهاء صلاحية الحياة في العالم، وانقلاب هذه الأخيرة على نفسها. ومن ثم الانتقام من نفسها على نحو من استخدام غريزة الانتحار في حدودها القصوى. مشهد نموذجي لنهاية العالم على هذا الغرار في العراق. باللغة وحدها التي لم تنعدم فيها أسباب الحياة بعد، يقارب الشاعر هذا المشهد المرعب ليتسنى له الاعتقاد بأن نهاية العالم قادمة لا محالة، وان ميلاداً جديداً للغة قادم لا محالة أيضاً. تولد اللغة عندما ينتهي العالم. عندما يصبح مفتقراً إلى ما يشعل في ذاكرته جذوة الحياة. عندما يصبح عاجزاً عن التمييز بين الموت والحياة الى الحد الذي يغدو كل منهما وجهاً مخيباً للآمال يخبئ تحت قسماته الظاهرة قناعاً يستقبل به الموت فقط. الوجه قناع يخفي خلفه قناعاً. وفي المسافة التي تفصل بين الاثنين تنمو طحالب في تربة من العقم المذهل. ولكن ثمة ما يتكون على الضفة الأخرى لهذا العالم الموحش: اللغة وهي تختبر قدرتها على الصمود والبقاء في عالم ينكمش على نفسه. تنطفئ أنواره في الحلم. أصبح مسكوناً بغريزة الاندثار. من بين مشاهد الزوال هذه، تعثر اللغة على نفسها. ولعلها توقن أن في قيامتها قيامة للعالم من تحت كثبان الرماد.
النهر والينبوع
هل يوظف الماجدي هذه التقنية المتقدمة لإنقاذ نصوصه من غنائية باتت تذرف دموعاً مجانية على عالم لم يعد ذا وجود حقيقي في ذاكرة اللغة المتداولة؟ لعلّه يتمكن من فعل ذلك، ولو اضطر إلى ايقاف زحف هذه الغنائية وفي حوزتها رمال كثيرة ورماد كثير وموت متأهب لتذوق طعم الفناء. والأرجح أن في كل من هذه النصوص ربع الساعة الأخير، وهو الهامش الضئيل لزمن تقذفه الرياح إلى متاهة العدم. يستدرك الشاعر هذه اللحظات القليلة وهي توشك على الانقضاء سريعاً. يتدخل بقوة الرؤية التي أخذت تشع من البعيد في ذاكرة اللغة. يتجرأ على الحد من زحف الرماد بالكشف عن المشهد الآخر الذي راح يتكون في المفردة ودلالاتها واحتمالاتها. يتشبث بهذه الاحتمالية قبل أن تولي الأدبار. فإذا بها تنكشف عليه بما لم يكن متوقعاً في مطلع النص. تتحول المأساة العراقية في هذه الأجواء التي يتقاطع فيها زحف الرماد بنبض ضعيف من حياة تلفظ أنفاسها الأخيرة. لا يتوقف زحف الرماد في النص، تتكوّن على تخومه القريبة والبعيدة صور لمشاهد مدهشة توحي بأن جثة العالم قد ووريت الثرى، وأن اللغة قد استردت روحها من تحت الأنقاض. عالم يذهب مسرعاً إلى حتفه. عالم آخر ينهض من بين الرؤية الشعرية. الاثنان يلتقيان في منتصف الطريق. لا ينبس أحدهما ببنت شفة. يكمل كل منهما خطاه إلى حيث ينبغي أن يصل. تجربة مثيرة للدهشة والجدل. لا يخلو نص منها. يقيم الشاعر، في فضاء النصوص، عند الحد الفاصل بين نهر الرماد وينبوع اللغة التي أيقظتها أحلامها الأولى. تمتلئ اللغة، من جديد، بذاكرة متحولة لتستعد ثانية لمواجهة الرماد في نزال مرتقب.



صحيفة المستقبل اللبنانية- الثلاثاء 5 نيسان 2011 -