العقل الشعري
د. خزعل الماجدي
إذا كان يترتّبُ عليّ اختيار صورةٍ مبشّرةٍ بالنجاح للأعوام الألف القادمة فإنني أختارُ القفزة المباغتةَ للشاعر الفيلسوف الذي يسمو فوقَ وطأة العالم مؤكداً بذلك أن ما يعتبرهُ الكثيرون نشاطاً وحيويةً في هذه الأزمنة الضجيج والدويّ والعدائية ينتمي إلى أقاليم الموت و إلى ما هو أشبه بمقبرة سيارات قديمةٍ وصدئةٍ.
كالفينو
(ست مذكرات للأعوام الألف القادمة)
مــقدمـة
العقـل الشعــري
يعترفُ هايدجر أن سبب اختياره للشاعر هيلدرلن ، نموذجاً لتبيان ماهية الشعر، إنما يكمن في أن هيلدرلن يرتكز على هذا التصميم الشعري الذي يتكون من تأمل ماهية الشعر نفسها، والتعبير بالشعر عن هذا التأمل، فهيلدرلن هو ،بمعنىً من المعاني عند هايدجر، (شاعر الشعراء) لأن الشعرَ كان موضوع شعره.
وبالرغم من أن تشخيص هايدجر كان دقيقاً لكنه لم ينبَِّه الى الخسارة الفادحة التي سببها هيلدرن لنفسه وللشعر حين أفسدَ شعره بالحديث عن ماهية الشعر، وحين لم يشرع بتوضيح ماهية الشعر عن طريق بناءٍ نظري مقنع أو حديث ممتع عن الشعر. هكذا كان يُضطر الشعراء للإفصاح عن ماهية الشعر.. فياللخسارة!!
لقد كانت موهبة هيلدرلن جديرةً بأن تنشغل بنصوصٍ شعرية لا بمضامين تتحدث عن ماهية الشعر. إن أغلب الشعراء لا يجيدون الحديث عن شعرهم أو عن الكيفية التي يكتبون بها الشعراء أو عن رؤيتهم للشعر، ولا يعدّ هذا عيباً، لكنّ قدرة الشاعر على أن يفعل هذا وأن ينظَّر للشعر، هي الأخرى، ليست عيباً. العيبُ الوحيد الذي يمكن أن يلازم الشاعر هو رداءة شعره وعدم قدرته على الإتيان بشعر نشطٍ وجديد ومغاير.
ظهرت القدرة على التنظير الشعري النوعي من قبل الشعراء أنفسهم مع ظهور الشعر الحديث في الغرب بعد منتصف القرن التاسع عشر، وكان بودلير أول شاعرٍ منظِّر مثلما كان أول شاعر حديثٍ بالمعنى الدقيق للكلمة. وقد وصل التنظير الشعري ذروته مع الشاعر ت. س. أليوت رغم أن تنظيراته كانت تنحى منحىً نقدياً أكثر من كونها تتجه نحو التنظير العميق للشعر.
وفي جميع الأحوال كان التنظير الشعري للشعراء أكثر صدقاً وأكثر قدرة على التعبير عن ماهية الشعر من الفلاسفة والنقاد وعلماء العلوم الإنسانية القريبة، فالشاعر أدرى بتلك الأغوار العميقة التي تخرج منها أشعاره وربما كان أدرى بموجـِّهاتها العقلية والفكرية.
كان لمفهوم العقل الذي وضعه ديكارت في منتصف القرن السابع عشر الأثر الكبير في ظهور فلسفة أوربية جديدة متماسكة تناظر الفلسفة الكلاسيكية الإغريقية الغاربة، وكان كتابه الأول الذي كُتب قبل 1629 (قواعد لتدبير العقل) يؤكد على أنه من بين ملكات المعرفة الأربع: (العقل، المخيلة، الحس، الذاكرة) لا يتهيأ لغير العقل وحده أن يدرك الحقيقة، لذلك يتحتم على العقل أن يزيد من أنواره لا ليحلّ صعوبةً بعينها من الصعوبات المدرسية. وقد شخّص ديكارت ملكتي العقل الأساسيتين وهما: الحدس، أي التصور الذي يصدر عن عقل خالص ومتيقظ في سهولة ووضوح بالغين، والاستنتاج
وبه نتعقل حقيقة من الحقائق على أنها نتيجة لحقيقة أخرى نحنُ منها على يقين. والحدس هو الذي يبلغ المعاني والحقائق الأكيدة التي لا ريب فيها مثل (أنا أفكر، إذن أنا موجود (Cogito ergo sum وهو ما أطلق عليه بالكوجيتو الديكارتي.
لكن صورة العقل لم تكتمل الاّ عند (عمانوئيل) كانت الذي نقد العقل المحض والعقل العملي وكشف بناهما الترانسدنتالية والإجرائية على التوالي.
وبعد (كانت) أصبح بإمكاننا الكلام عن عقل فلسفي يضمّ العقول الحدسية والمثالية والظاهراتية والواقعية والوجودية والوضعية والبراغماتية وغيرها) وعقل علمي ينظر في حقول العلم المعروفة، وعقل ديني يحاول إعادة تنظيم المعتقدات والأفكار الدينية في أنظمة جديدة، أما حقول الفن والأدب والشعر فقد ظلّت بلا عقل!!
كان علم الجمال مكاناً لمراقبة وجهات النظر الفكرية والفلسفية في أهمية الفنون وطبيعتها وكان عرضاً لعلاقة الفنون بالعلم والدين والأخلاق… الخ، وقد ظلّ هذا العلم يتردد بين الجدران الأكاديمية والمقولات الجاهزة التي رسمت له ولم يستطع سبر الأغوار العميقة للدافع الفني، أما الشعر فقد ظلّ ملحقاً هامشياً بالفنون يُذكر أحياناً لإضفاء الشمول على علم الجمال ومباحثه.
نرى اليوم ضرورة أن يظهر ما يُسمى بـ(عقل شعري) يُعنى بالنظر في ماهية الشعر وطبيعته ومشكلاته وأنواعه وطبقاته وأغواره، ويكون قادراً في الحدَّ الأدنى على توصيف ظاهرة الشعر، والفن والأدب عموماً ، التي أنتجها الإنسان في عموم العالم المعاصر أو القديم واستنباط قوانينه من تلك الظاهرة ونصوصها.
إن (العقل الشعري) هو أحد أطياف (العقل) والمعني بإنتاج الشعر ونظرية الشعر، وقد أطلقنا عليه أحياناً (الشعري) وهو يمتاز بشكل نوعي عن بقية العقول التي قدمها تاريخ الفكر والفلسفة، فهو عقلٌ نوعي لأنه معنيٌّ بالإبداع والخلق والإبتكار عموماً، إنه عقلٌ لا يفكر فقط بل يبدعُ ويجدُ مسارات جديدة للعقل الإنساني ككل، ولذلك نرى أن هذا العقل كان موجوداً في الماضي لكنه كان ينتجُ الشعر أكثر من إنتاجه النظر الشعري، ومع تقدم الإنسان وزيادة معارفه وإدراكه لمكنوناته الداخلية أصبحت قدرته على نتاج النظر الشعري أفضل وازدادت قدرته على إنتاج الشعر في الوقت نفسه.
نرى أن تكوين العقل الشعري ينطوي على بنيتين أساسيتين : الأولى هي البنية الشعرية المسؤولة عن إنتاج الشعر، والثانية هي البنية الميتاشعرية المسؤولة عن النظر والتأمل في الشعر. وتتماهى أحياناً الحدود بين البنيتين ويختلطُ حقلاهما في منطقة رمادية تصدر عنها تلك الشطحات والومضات الشعرية الخاطفة مثل تلك التي كان يتفوه بها نيتشه أو المتصوفة أو الكتب المقدسة في كثير من الأحيان.
هذا الكتاب يحاول أن يصف البنى المفصّلة للميتاشعرية من وجهة نظرنا لكننا آثرنا إطلاق تسمية (العقل الشعري) عليه لإيماننا بأن النصَّ الشعري أمرٌ يقوم به كلّ شاعر على وجه الأرض أما النظر الشعري (الميتاشعر) فهو أمرٌ لا تقوم به إلاّ قلة من الشعراء القادرين على وصف تجربتهم الداخلية في إطار فكري ومعرفي، ولذلك صار الميتاشعر رديفاً أقوى للعقل الشعريّ.
إننا نودّ أن ننوه بالكثير من التأكيد على أن لكل شاعر عقلاً شعرياً يستطيع أن يفرش خرائطه ومكوناته وسيناريوهاته كما يشاء وسيُزيد هذا من ثراء العقل الشعري إجمالاً، إلاّ إننا لا نستطيع ان نثقَ بما يحاوله ناقدٌ أو فيلسوف أو عالم جمال من وصف للعقل الشعريّ لأن الشاعر / المفكر حصراً هو الذي يستطيع ذلك ونرى أن المستقبل سيكون حافلاً بالشعراء المفكرين ، لأن شاعر الفطرة سينحسرُ بمجرد الانتباه الى ضرورة حماية وصيانة هذه الفطرة حتى النهاية بل وتحريضها على المزيد من العفوية والشراسة عند الشاعر المفكر وحينها سيكون الفكر سياجاً حامياً لهذه الفطرة لاسجناً لها كما حصل مع التجارب الفاشلة في هذا الصدد.
العقل الشعري هو أحد البنى الأساسية للعقل البشري ورغم أن العقل البشري واحدٌ في تكوينه لكنه يتضمن عدة بنى أساسية، فنحنُ نرى أن العقل الشعري هو نواة العقل البشري فهو يحتل المركز ويشكل جوهر الإبداع في كل العقول الأخرى حوله. وربما أحاطت بهذا العقل حلقات أخرى لكن الأساسي منها يتمثل بـ (العقل الديني، العقل الفلسفي، العقلي العلمي) وربما ظهرت حلقات فرعية بينها مثل العقل السياسي والعقل الإقتصادي وغيرها..
لكنّ العقل الشعري ،الذي نرى أنه مولّد الإبداع في كلّ العقول الأخرى ،ظلّ بعيداً عن الدرس والقتصّي ولم تفحص مكوناته بشكل دقيق بل أن الشعراء أهملوه ولم يسعَ كلّهم الى تحفيزه وجعله منتجاً للرؤى والنظريات والفكر الشعري، لكننا، اليوم، نرى ضرورة أن يقوم هذا العقل الشعري بدوره في إنتاج أنظمة جديدة من الفكر الشعري الذي سيساهم في إغناء نشاط العقل البشري وسيعمل على صيانة وإنعاش الإنتاج الشعري بل والابداعي بشكل عام.
إن البحث عن ( العقل الشعري) الذي ندعو إليه يجيء متأخراً بعد أن ترسخت العقول الأخرى وبعد أن كان هذا العقل، ذات يوم، مركز انتاج الأفكار والرؤى والأخيلة الأدبية والدينية والفلسفية والعلمية. وربما تقع محاولتنا هنا في إطار البحث فقط، لكننا نطمح من خلال هذا الكتاب والكتب القادمة الى محاولة تأسيس للعقل الشعري وسيكون بإمكاننا الحديث، بثقةٍ، عن هذا العقل مثلما نتحدث عن العقل العلمي والفلسفي والدينيبشكل خاص .
كان هذا العقل ومازال مسؤولاً عن قفزات الإبداع في كل العقول الأخرى لأنه النبض الأساس لكلّ العقل البشري. وربما ستسنح فرصة أخرى للبحث الدقيق في بناه التفصيلة رغم اننا حاولنا ذلك عبر محاضرة (غير منشورة) ألقيناها في اتحاد الأدباء العراقيين في الثمانينات عن (البنى العقلية) وسنقوم بنشرها في كتاب مستقل خارج هذا الكتاب.
أما هذا الكتاب فهو مانراه فاتحةً مقترحةً في حقل (العقل الشعري) الذي نحرَّض على ضرورة بنائه ورصفه واعتباره حقلاً معرفياً جديداً يُنعشُ العقول الفلسفية والعلمية والدينية التي تحيطُ به، بل يمكن للعقل الشعري النيء أن يكون مصدر شحنات إبداعية الى العقول المحيطة به ومركزاً لبثَّ القوى الى هذه العقول المطبوخة نوعاً ما، إن براءة وفطرية وعفوية العقل الشعري تجعل منه الطبقة الباطنية العميقة والطازجة والبذرية للعقول الفلسفية والعلمية والدينية، بل لعلنا ذهبنا إلى أبعد من ذلك في كتابنا هذا عندما اعتبرنا أن العقل الشعري هو مصدر الفلسفي والمعرفي والعلمي والديني وأن هذه الحقول التي تجمدت في مساراتها مازالت تنبضُ بين فترة وأخرى بفعل الشرايين التي يبثها فيها العقل الشعري، وان العقل الشعري ـ بعبارة أخرى ـ هو المسؤول عن الإنزياحات المهمة التي تحصل في العقول الأخرى وهو المسؤول بالتالي عن الإبداعات التي تنتج عن هذه الانزياحات.
ينقسمُ هذا الكتاب إلى خمسة فصولٍ أسمينا الأول فيها تسمية قريبة من التسميات الكانتية وهو (العقل الشعري الخالص) أي الشعر في ذاته، الذي هو عقل الرؤى والأفكار العالية (الترانسدنتالية) فهو بناءٌ مثالي خالص يصفُ شعراً مطلقاً خالصاً أو أنه يصف ماهية الشعر بشكل عام كما نراه وقد وضعنا أغلب بياناتنا الشعرية فيه، ففي (ميتاجماليا الشعر) رأينا أن للآدب والفنون منطقة جمالية ،أما للشعر فمنطقة ميتاجمالية وهو أول فصل ترانسدنتالي حيث قلنا أن الشعر ليس جنساً أدبياً وإن إدراج الشعر ضمن صنوف الأدب أو الفن هو من أكبر المغالطات التي شوّهت نظرتنا للشعر وضبّبت حقيقته، فالشعرُ حقلٌ أساسيّ من حقول الوعي البشري يشبه العلم والدين والفلسفة والفن وهو ليس أحد الفنون والآداب بل هو النبضُ المبدع في كل هذه الحقول ولذلك يجب أن نخلَّصه من كونهِ تابعاً الى كونِهِ متبوعاً أو مستتراً في أنسجة الحقول الأخرى. تصبح الميتاجماليا إذن مكاناً أوّليـّاً مناسباً للنظر الشعري ولتأمل الشعر والحديث عن جماليته الخاصة وهو ما يجعل الشعر ولعاً ميتاجمالياً يضربُ بعيداً في المدهش والمغاير واللامعقول واللاموجود. وفي هذا الصدد تمّ التفريق بين الشعر من ناحية والنثر والعلم والفلسفة والدين والأسطورة من
ناحية أخرى.
وفي (جوهر الشعر) حاولنا أيضاً فحص جوهر الشعر والجوهر الذي تحدثت عنه الفلسفة (أنطولوجياً ومعرفياً) وحاولنا التعرف على جوهر الشعر المنطوي على مركزين متلاصقين ومتضادين، في الوقت نفسه، هما (مركز اللوغوس ومركز الإيروس) ورأينا أن مركز اللوغوس هو نواة جوهر الشعر في حيث كان مركز الإيروس هو الفضاء أو النصّ الذي تظهر فيه شحنة الجوهر. ثم تتبعنا التاريخ السريّ لظهور جوهر الشعر في النصّ ورأينا أنه قد تدرّج في انضباطه القوي مع غاياته من البرهان الى البيان ثم العرفان ثم الرحمان حيث يتحرر الشعر شيئاً فشيئاً ليعبر في النهاية عن جوهره وماهيته.
لكننا في (فينومنولوجيا الشعر) ذهبنا الى ماهو أبعد من ذلك حين جعلنا جوهر الشعر يخرج من عزلته ليتخصّب بتسع رحلات أو حركات باتجاه المقولات الفلسفية المحيطة به، فقد وضعنا جوهر الشعر في مركز دائرة تحيط به تسع مقولات أرسطية هي (الكم، الكيف، الكيف، الإضافة، الزمان، المكان، الوضع، المُلك، الفعل، الإنفعال) ثم حرّكنا الجوهرَ باتجاهها ليتخصّب بها في رحلة تاسوعية تجعل منه جوهراً منفتحاً على قوى الفعل والوجود معاً.
أما في (إبستمولوجيا الشعر) فقد تحول العقل الشعري الى مرجعية معرفية غير مشروطة تختلف عن الإبستمولوجيا الفلسفية والعلمية وذلك عن طريق إقصاء المعلومة وتحويل الكتلة المعرفية الصلدة إلى إشارات وشفرات ورموز. وفي المقارنة بين الشعري والمعرفي ثم الشعري والفلسفي كشفنا عن التعارضات بينهما ومناطق اللقاء والنماذج فالميتافيزيقيا مثلاً تقع في الفلسفي لكنها في حقيقة الأمر منطقة تزاوج بين الفلسفي والشعريّ، لقد قوّضت العصور الحديثة، من خلال العلم والتيارات التجريبية ومن خلال النُظم الإبستمولوجية، فكرة العقل الكلي في الفلسفة والذي هو عقل فطريّ ذو طباعٍ بسيطة كما يقول (ديكارت) وأصبحت مناطق هذا العقل من حصة العلوم المختلفة، ولذلك غاب ذلك الطابع الشمولي في الفلسفات المعاصرة بل وانهزمت الميتافيزيقيا إلى جحورها مذعورةً، أي أن ساحة الكليّ عادت تتفرغ مرة أخرى إذ لم يعد بإمكان العلم ،القائم على التجريبية (وهو ناقدها وداحرها الأول) أن يحلَّ محلها، وقد شلّت الأديولوجيا قوة الديني وكان الأدب يتسلّى بالجزئيات ولذلك لم يكن غير الشعر مؤهلاً للقفز إلى منطقة الكليّ ولكن دون أن يقع في أخطاء الفلسفي.
أما في (ك / ن) فقد بحثنا في أُنطولوجيا الشعر من خلال ثلاثةِ حقولٍ متمايزة هي كون الوجود وكون الرؤية (حيث خرائط العقل الشعري) وكون اللغة (حيث خرائط النص الشعريّ). وكانت محاولتنا هنا بالإبتعاد عن الجهاز الإصطلاحي الفلسفي معتمدة على ابتكار جهاز إصطلاحي رؤيوي عماده الحروف. وفي كون الوجود (حيث خرائط الظلام) كان هناك مستويان الأول عياني ظاهري بيّن هو (ع) والثاني ضمني داخلي دفين هو (ن) وفي المستوى (ن) تكمن كثافة الكون والزمن، وأما المستوى الظاهري (ع) فهو المستوى الظاهر الذي يتجول فيه الإنسان، ويكون الخلق والإبداع بحركة (ك) بين المستويين (ن،ع). ويتعزز هذا السيناريو عندما نناقش كون الرؤيا حيث خرائط العقل الشعري التي تكون عبارة عن حُزمٍ من النظريات والرؤى التي تتماسك كلما اتجهنا صوب المستوى (ن)، الذي هو مستوى الرؤيا الضمني، وهو ما يدعونا إلى القول بأن نظريات العقل الشعري لا تتعارض مع بعضها بل يكمَّل بعضها الآخر في تماسك دال على العقل الشعري الضمني العميق (ن) الذي يعبّر عن العقل الشعري الباطن الذي تلتمع فيه أفكارٌ شعرية تتقافز فوق بعضها كأنها أمواج سابحة في بحر عميق.
إن جوهر الشعر، الذي ناقشناه سابقاً، تسيطر عليه هنا طرق نظر ورؤى، أما مادة هذا الجوهر فتتدفق. النظريات تمنح الجوهر شكله وخارطته أما تدفقه داخل خلية الشكل فيتمّ في النصوص الشعرية. إن النظريات الشعرية عبارة عن خرائط متداخلة مع بعضها يتولد من تقاطعاتها وثنياتها بؤر وإضاءات تفتح الطريق، هذه النظريات آيلةً إلى الدفن ولكن من نشوئها وموتها تتولد الطرق الشعرية الجديدة. قادمة من المستوى الضمني للعقل والكون فهذه الرؤيا الضمنية هي التي تقصُّ وتعدَّلُ وتمنح القصيدة الجديدة.
أما في كون اللغة فتظهر خرائط النص الشعري، التي هي أنعكاسٌ لهولوغراف عقلي ، وهي عبارة عن عقل شعري متكون من الإبداع والرؤيا . إن نموذج الخرائط الشعرية المقترحة لا يتطابق تماماً مع هيكل العلاقات في النصوص الشعرية لأن هناك توازناً قلقاً بين الخريطة (النموذج) والعلاقات (النصوص) وتعمل موجات التجديد الشعري دائماً على هدم هذا التوازن وخلق توازن آخر، وهكذا تكون الخرائط اللغوية والرياضية للنصَّ هي ترتيبات عالية جداً قادمة من المستوى المضموني (ن) وقد تبدو لوهلات عديدة أنها صيغٌ أو حركات عشوائية لكنها في حقيقة الأمر خرائط لترتيبات أو حركات بالغة الدقة لا يمكن لمساطرنا أن تضعها وفق مقاييس معروفة.
وتوصلنا مغريات البحث الذوقيّ هذا الى أن الشعر هو نظير العدم وأنه يصبح بطاقةٍ لا متناهية تسري في الكون كله وتقع في المستوى الضمني (ن) لكنه عندما يريد الظهور يتحجم في أبعاد محددة (أبعاد اللغة والزمان والمكان) بعد أن كان لا نهائي الأبعاد ولأنه فقد أبعاده اللانهائية فإنه يتقمص أبعاد المستوى العياني الثلاثة وربما الأربعة فيظهر ويتحول إلى قصائد في حين أن اللغة كلّها هي اهتزاز صغير في محيط شعريًّ هائل. وتنقلب معادلة الدال والمدلول والرمز، فالرمز هو الذي ينتج الدال وهذا هو الذي ينتج المدلول. ويتبع هذا أن الشعر هو الذي ينتج اللغة واللغة
تنتج المضامين أو المدلولات باعتبارها خزيناً شاملاً للعقل. وهكذا يكون العقل الشعري الخالص قد انتهى الى كونه ضمنياً وقد ساهمت اللغة والشعر في إنتاجه وتكوينه.
الفصل الثاني من الكتاب (العقل الشعري المحيط) هو الشعر لذاته، يكون العقل الشعري قد خرج من كمونه والإنغلاق في ماهيته إلى التجوّل في محيطه وفي علاقاته التي يشغلها مع هذا المحيط مثل المورث والنقد والسحر والأسطورة والتاريخ والمدنية والحداثة.
ففي (الشعر والموروث) يتم تبني التراث ،كاملاً ،كمعبِّرٍ عن شخصيةِ أمةٍ من الأمم ويجري التعامل مع مناطقه المعرّضة للضوء والمخبؤةِ في الأغوار بطريقة واحدة ، فهي ،كلّها، نتاج عقلٍ جمعيًّ جرى تكوينه وتحفيز ثماره في أزمانٍ مختلفة.ولذلك يكون الموروث دافعاً للإبداع والتقدم الى أمام، فقط، عندما يتحول الى مادةٍ خامٍ يقوم الإبداع بجعلها مادةً أوليةً لشعر جديد. ويكون الموروث العربي مادة هذا المبحث حيث نعثر فيه على الجذور اللوغوسية والإيروسية والشعبية للشعر العربي الحديث، ثم يتم نقل الموسيقي والرؤيوي من الموروث الى الشعر.كمثال لكيفية تسرب هذا الموروث الى الشعر الحديث.
أما في (الشعر والنقد) فنعالج بعض أخطاء النقد عندما يعالج الشعر، وأخطاء النقد عندما يكون في دائرة العلم أو في منطقة بين الأدب والعلم في ما يشبه مكان علم الكلام الأدبي. ولكن العودة الى النـزعة الذوقية في النقد تنقذه دائماً من آليات العلوم الإنسانية الحديثة التي قد تجعله جامداً آلياً. والنقد الذوقي هو ما نراه مناسباً للشاعر وهو يدخل منطقة النقد لأنه لا يريد أن يتحول الى عالمٍ في حقل العلوم الإنسانية ولذلك يكون النقد الذوقي هو الأقرب الى الشاعر من بين كل أنواع النقد.
أما في (الشعر والسحر) فقد حاولنا من خلال المنهج السيميائي دراسة العلاقة بين الشعر والسحر، ففي المرحلة قبل المنطقية كان السحر والشعر في نظامين مقفلين ومحدودين هما (الطقس واللغة) وبسبب من سقوط السحر في الطقس وتحرر الشعر من اللغة تداعى السحرُ وتناثر في الطقوس الدينية واخترق الشعر تلك العصور في حاضنات الدين والأدب. أما في المرحلة المنطقية فقد قامت الكتابة بحمل الشعر وتخليصه من كارثة الإندثار التي مزقت السحر إذ أن سيادة العلم في المرحلة المنطقية جعل الشعر يتخفى في الهوامش الدينية والأدبية هرباً من المنطق الذي يتسربُ في العلوم الصرفة والإنسانية ويحاول تسلق الأدب والفن أيضاً. أما المرحلة بعد المنطقية فيكون الشعر قد تخلَّص نهائياً من سطوة المنطق وأصبح حراً مستقلاً وبذلك يكون مناظراً لسيادة السحر في المرحلة قبل المنطقية، وهنا تتضح العلاقة من جديد بين السحر والشعر من خلال دلالة مقفلة ومفتوحة على التوالي. ونصل الى حقيقة أن النص السحري هو نصٌّ جيني والشعر نصٌّ متميز، الأول ظلَّ بسيطاً والثاني أصبح مركباً.
في (الشعر والأسطورة) ناقشنا الفرق بين المركزين الأساسين لهما ففي حين ينتظم الشعر في جوهر (لوغوسي / إيروسي) تنتظم الأسطورة في جوهر مقدس (إلهي) وتحاول الأسطورة تذكـّر حادثة خارج الزمان والمكان ورفعها الى مستوى المطلق. الأسطورةُ نصٌّ محكوم بأطار صارم والشعر نصٌّ منفتحٌ على كافة الإحتمالات. ويستمر البحث عن العلاقة بينهما سلباً أو إيجاباً أو توازياً،حتى نصل إلى الكيفية التي يجب على الشعر الاستفادة المثلى فيها من الأسطورة.
أما في (الشعر والتاريخ) فيجري الأمرُ وفق آلية أخرى فإذا كانت الأسطورة بنية مقدسة ثابتة غير كرونولوجية (متواترة) فإن التاريخ هو مسرى كرونولوجي من الأحداث ويسعى الشعرُ لتدمير البنى الصارمة التي أوجدتها التفسيرات الميتاتاريخية لمسرى الأحداث التاريخية. إن الشعر مع عفوية التاريخ وضد السجون والقوالب التي تصنعها فلسفة التاريخ وقوانين التاريخ وبحوث التاريخ وبكلمة أخرى (الميتاتاريخ)، فالشعرُ يجري في عروق التاريخ ويبتعد عن الميتاتاريخ، وهو يختلف تماماً عن الأسطورة لأنه ليس مقدساً ولامقفلا ً مثلها ، إنه الروح المرفرفة حول التاريخ وهو أقرب الى روح ونبض التاريخ منه إلى جسد وتفاصيل التاريخ ،وهكذا يعاود الشعر اتصاله بتاريخ الروح أيضاً ولكن ليس عبر صيغ أفلاطون أو كانت أو هيغل أو برغسون بل عبر الروح السريّ الذي يخترق العالم ويكمن في الدين والأدب والفن والفلسفة.
أما في بحوث (الشعر والمدنية) و (الشعر والحداثة) و (موت الحداثة) فإننا ندخل في ثلاث مناطق للبحث في قضية الحداثة في ربيعها وخريفها وشتائها، ففي المدنية والشعر نتوصل إلى أن الحداثة هي ناموس المدينة الغربية التي شملت كلّ قطاعات الحياة ومن ضمنها الأدب والشعر وأن هناك فرق بين حداثة الجوهر وحداثة التقنيات المظهرية، ثم نتناول الشعر العربي وفكرة الحداثة والمدنية والأخطاء التي وقع بها، وتعارض بنية الماضي مع مجرى الحداثة ثم ناقشنا النـزعات الفلسفية والتكنولوجية المعاصرة المضادة للشعر وبيّنا تهافتها.
أما في بحث (الشعر والحداثة) فقد أكّدنا على المفهوم الشمولي للحداثة وعلى ارتباط التكنولوجيا بها وعدم التعارض بين التكنولوجيا والشعر، لكننا ركّزنا على نزعة الاستهلاك المعادية لكلِّ تحديث ووجدنا أن الحداثة تحتاج دائماً إلى نزعةٍ كلاسيكية مستعادة بوعي لترصين منجزها. لكن الحداثة في الغرب تحتضر وتموت بسبب آلياتها الشمولية ونزعتها المركزية والكلاّنية والنخبوية لذلك كان بيان (موت الحداثة) محاولة لتخليص نزعة الحداثة من مهيمنات مؤسسة الحداثة ومركزيتها وأوهامها. إن موت الحداثة هنا لا يعني موت التحديث بل موت المؤسسة الأديولوجية الصارمة للحداثة التي أصبحت غولاً مخيفاً بسبب العنف الذي بدأت تمارسه ضد الشعر والأدب والروح والجمال.
الفصل الثالث (العقل الشعري الناطق) وهو الشعر في ظهوره من خلال اللغة تحديداً حيث جرى البحث في إعادة تعريف الشعر على أساس لغوي من خلال التمييز بين اللغة والكلام والخطاب، ثم البحث عن طبيعة اللغة الشعرية وما تحدثهُ في اللغة العادية لنمهد الطريق للحديث عن شعرية النثر والوزن. في (الغامض الجميل) يتم إعادة تعريف الشعر على ضوء ما أنتجته حركة النقد الجديد والعلوم الإنسانية الحديثة فيتم التوصل الى أن الشعر هو كلام الكلام، ويمتاز هذا الكلام بصفتي الغموض والجمال، ويتم ايجاد تبريرات لغموض وجمال الشعر من خلال غموض وجمال الطبيعة والذات واللغة، ويجرى التمهيد لقصيدة النثر وللشعر النثري من خلال إثبات أن الشعر هو إلتقاء نثرين أحدهما غامض والآخر جميل ولا ضرورة هنا لشروط أخرى موسيقية أو هندسية، بل لعلّ النص الغامض يشير الى جوهر الشعر وغموضه، والنص الجميل يشير الى الشكل المفتوح لهذا الجوهر. وهو ما يشير بوضوح إلى تراصف جنسين بذريين في غلاف واحد هما قصيدة النثر والنص المفتوح كتعبير عن جوهر الشعر وفضائهِ المفتوح.
في (الشعر واللغة) يجري البحث في آليات المغامرة اللغوية في الشعر على مستويات الصرف والبلاغة والأسلوب، والبحث عن لغة الشعر المستحيلة التي تخترق سلطة الواقع وسلطة اللغة والتوقف عند طاقة الشعر التي لا تنتهي ولا تتبدل ولا تُستهلك داخل الشكل الشعريّ، ويجري غسل الكلمات وشطفها من الإستعمالات القديمة لجعلها في استعمالات جديدة تنبضُ بالحياة، ثم العودة الى علاقة الشعر بالكلام، وعملية تنشيط اللغة عن طريق الشعر.
في (شعر النثر وشعر الوزن) نصنع نموّاً منطقياً لظهور الشعر من خلال اللغة دون لوازم وعكازات بلاغية ووزنية وقافّية. فالشعر في النثر يظهر في أول براءَته لأنه معنيٌّ بتبديل المعنى ثم تبدأ أغطية البلاغة ثم أغطية الوزن ثم الشكل الهندسي الوزني ثم القافية وهكذا يُثقل الشعر بلوازم تبعده عن حقيقته. والمدهش في الأمر أن هذا التطور المنطقي الموضوعي للشعر يظهر معاكساً للتطور التاريخي للشعر.
في (قصيدة النثر) جرى التأكيد على أنها عودة الى جوهر الشعر وتقدمٌ نحو فضائه في الوقت نفسه، فالاقتصاد اللغوي فيها والكثافة الشعرية والتخلي عن شروط الإيقاع المسبقة جعلها تقتربُ كثيراً من الشكل البدائي لجوهر الشعر ولكن هذا لا يعني تخلفها بل نفضها للقيود الموسيقية والهندسية الصارمة التي قيّدت الشعر وأنهكته والعودة الى يراءَته الأولى وقدرته على النفاذ في أعمق وأبعد وأعقد الأمور بلغةٍ كثيفةٍ وواضحةٍ. ويحاول البحث أن يتقصى الجذور العميقة لقصيدة النثر العراقية فيجدها في الشعر السومري الذي كان يخلو من الوزن والقافية وكان عفوياً بطريقةٍ مدهشة. ثم يحاول البحثُ النظرَ الى قصيدة النثر العراقية الجديدة.
وفي (قصيدة الصورة) يتمّ تناول أحد عناصر الشعر الأساسية وهي الصورة الشعرية باعتبارها الوحدة التي يمكن أن تتألف منها قصيدة قصيرة اسمها (قصيدة الصورة) ويجري تتبع ظاهرة قصيدة الصورة هذه منذ القدم حتى العصر الحديث ثم تدرس الصورة وقصيدة الصورة من خلال المجاز الأسلوبي وتقنيات الأداء في قصائد الصورة التي كتبناها في عام 1990.
في الفصل الرابع (العقل الشعري العملي) حيث الشعر في تحققه وإنجازه ينطلقُ العقل الشعري ليمارس فعاليته الحقيقية عبر النصوص المتحققة مراقباً مرجعياتها النظرية ومنظماً لها بعد أن تكون التجربة الشعرية قد نضجت وانتهت. فالعقل الشعري العملي عقلٌ يحاول أن يصنِّف وينظِّم أشكال ومرجعيات النصوص الشعرية. وإذا كان العقل الشعري الناطق قد بحث في علاقة الشعر مع محيطه فإن العقل الشعري العملي سيقدم الوصفَ النظري لما تحقق من الشعر نصوصاً. وقد كانت النصوص التي كتبناها هي القرب لنا منسجمين مع شرط العقل الشعري في أن يقوم الشاعر بالتنظير للشعر بعامة
وأن تكون نصوصه الشعرية أمثلةً قابلةً للفحص والنظر بخاصة، ففي هذا الفصل قمنا بتناول كلّ ما كتبناه من شعر على مدى ثلاثة عقودٍ تقريباً وصادف ذلك أننا وضعنا أربع مجلدات لأعمالنا الشعرية يتقدم كلّ مجلد مقدمةً نظرية تتناول الإطار العام لمجاميع وقصائد كلَّ مجلد، فالعقل الشعري العملي هنا معبَّرٌ عنه بمقدمات تصفُ وتنظِّم وتحلل القصائد والنصوص الشعرية.
ظهر المجلد الأول من الأعمال الشعرية وهو يحتوي أغلب قصائد النثر التي كتبناها في مجلدٍ لست مجموعات شعرية وكانت مقدمته بعنوان (الشعر الشرقي) وهي رؤيا خاصة للشعر الشرقي، كما نراه وكما نتمناه، فهي ليست معنيةً بتقصي وفحص ودراسة الشعر الشرقي القديم وليست معنية بالبحث في تفاصيل تاريخه والتعريف بأهم مراحله وتحولاته ولكنها محاولة للنظر إلى الإمام إنطلاقاً من تراث شرقي سابق، إنها سعيٌ لوصف شعر شرقي جديد حاولت قصائد هذا المجلد الشعري أن تجسده. المحاولة هنا تكن في إشعال الجذوة الكامنة في الشعر الشرقي القديم وجعلها تتـّقد وتشعُّ في شعرٍ شرقيٍّ جديد يبتعد عن السجون الشكلية والزخرفية للشعر القديم ويحاول أن يكسر قمقمَهُ ليطاول ويتخطى الشعر الغربي المعاصر الذي نرى أن شيخوخته قد حلّت مع نهاية التيارات الحديثة ولم تعد روحه تقوى على الصمود أمام سياط الاستهلاك التقني التي جلدته كثيراً وأنهكته، ثم تتناول المقدمة أنماط وأنواع الشعر الشرقي القديم والوسيط والحديث (الفولكلوري) وصفاته ومميزاته العامة، وتحاول المقدمة استنطاق النصوص الشعرية في هذا المجلد وإظهار صفاتها ومكوِّناتها الشرقية.
في المقدمة الثانية (السحري والإيروسي: كيمياء اللغة والجسد) حاولنا تتبع مجريات الشعر المقدّس والشعر المدنّس من خلال كشف الجوهر الأساس لكليهما فالشعر المقدس ذات جوهر إلهي دينيّ، أما الشعر المدنس فله جوهر جنسي دنيوي، ويجري من جديد تتبع ما نتج من شعر ديني أو دنيوي عبر التاريخ، فقد أنتج تاريخ الدين (التميمة، الترتيلة، الأسطورة، الكتاب المقدس) كأنواع شعرية ذات جوهر إلهي مقدّس)، بينما أنتج تاريخ الأدب الدنيوي (الأغنية، الحوارية، الملحمة، القصيدة) كأنواعٍ شعرية ذات جوهر جنسيًّ مدنّس كمترادفات للأنواع الدينية. وعاشت جميع هذه الأنواع في تداخل وتواشج. ورغم ان (القصيدة) أصبحت هي الشكل المعاصر للشعر وورثت طاقة الشعر الديني والدنيوي.. الاّ أن هناك ما يُغري لفتح فضاء الشعر من جديد وإنعاش الانواع القديمة في سياقات جديدة تتخطى (القصيدة) وهو ما سنفعله لاحقاً في بحثنا عن (النص المفتوح). وفي علاقة الشعر بالسحر حاولنا إعادة تقسيم الشعر على ضوء تقسيم السحر إلى أنواع ثلاثة وبحثنا في علاقة الشاعر بالساحر، أما في علاقة الشعر والجسد فقد بحثنا في طاقة الإيروس وطاقة الشعر. ثم تناولنا كيمياء السحر والجسد في المجموعات السبع التي يحتويها هذا المجلد.
في المقدمة الثالثة (الشعر الغنوصي) حاولنا بناء نظرية طموحة لما نرى أنه شعر غنوصي (عرفاني) مارسنا كتابته طويلاً في نصًّ لعله الأطول في كلَّ أعمالنا ذلك هو (خزائيل) الذي يتكون من إثني عشر كتاباً شعرياً ضمَّها المجلد الرابع المسبوق بهذه المقدمة النظرية. ورغم أن (خزائيل) ينتمي من حيث الإجراء والتقنية والشكل الى (النص المفتوح) إلاّ أنه ينتمي من حيث المضمون والمكنون والمعالجة الى (الشعر الغنوصي).
بعد أن نعرِّف بالغنوصية وتاريخها نحاول استنطاق النصوص الغنوصية الشعرية القديمة الكامنة في نصوص الأساطير وبعض النصوص العربية الإسلامية الوسيطة، ثم نقوم بترحيل الغنوصية من الأديان والفلسفة نحو الشعر ونبني الهيكل الغنوصي الشعري الجديد الذي يعيد الاعتبار للجسد ففي ميثولوجيا الغنوص الشعريّ نرسم دورة الكلمة والغنوص الصاعد ودورة الرموز والغنوص النازل. ثم نأتي على تتبع دورات الغنوص الصاعدة والنازلة.
في المقدمة الرابعة (النص المفتوح: سينوغرافيا الفضاء الشعري) يجري البحث في طبيعة النص المفتوح الذي ينفتح عمودياً نحو الماضي وافقياً نحو الأنواع الكتابية المجاورة له، أي أن الشعر يتخصب هنا بآليات وطرائق قديمة وجديدة تكمن في نصوصٍ غير شعرية، ونخرجُ من البحث في أنماط الشعر القديم والنص المركّب إلى إمكانية تمثّل النص المفتوح لفضاء الشعر الملحمي، وعلى مستوى اللغة والخطاب فإن الشعر هو نصٌّ مفتوح بين الكلام والتأويل عبر سلسلة من تداعيات اللغة والكلام والخطابة والكتابة والنص والقراءة والتأويل. إن النص المفتوح يمثّل سينوغرافيا الكتابة ويحاول أن يطبع سينوغرافيا الحياة في فضاء مفتوح. ولذلك فهو يستفيد من آليات الفنون ويحفزَ بها انتاج أنواعٍ جديدة من النصوص المفتوحة، ونرى أن هذه الأنواع كثيرة جداً لكننا نحاول كشف ما كتبناه من نصوصٍ في هذا المجال ونؤكد على أنواع معينة مثل نصوص (السيرة، اللعبة، المخطوطة، الريبورتاج، الباطن)، ثم تأتي مرحلة التطبيق وتناول النصوص المفتوحة التي يضمها المجلد الثالث.
وبذلك نكون قد تحدثنا عن العقل الشعري العملي إنطلاقاً من تجربة شعرية مكتوبة ونصوصٍ.
في الفصلين الخامس والسادس لجأنا الى تقسيم آخر للعقل الشعري فبعد أن قسّمناه في الفصول السابقة الى ثلاثة عقول هي (الخالص، المحيط، الناطق،) حيث يتدرج العقل الشعري من ماهيته الى محيطه إلى البحث فيه، وبعد أن تقصينا العقل الشعري العملي من خلال النصوص الشعرية لجأنا هنا الى تقسيم آخر يقسم العقل الشعري إلى (ظاهر، باطن) حيث تطفو على سطح العقل الشعري الظاهر أسئلة وعلاقات الشعر والشاعر بينما يزدحم العقل الشعري الباطن بالبروق والشطحات الشعرية.
• ففي الفصل الخامس (العقل الشعري الظاهر) حيث الشعر في خداعه ومكره تتبعنا قطبي الشعر في مترادفات أو متضادات مجتمعة مثل التأسيس والتحريض والشعراء الأضداد وغيرها ثم بحثنا في سؤال الشعر فهل هو الشخص أم الإستعارة أم المخيلة أم المفهوم أم القطيعة أم الأمتداد أم الزمن أم الكيمياء أم الوظيفة أم المجاورة أم الجسد؟ وانتقلنا بعدها الى سؤال الشاعر الداندي البوهيمي وبحره وحدائقه وعقله وتعدده. ونكون بهذه الأسئلة والمترادفات والأجوبة القلقة قد مررنا على العقل الشعري الظاهر الذي تطفح فيه الشكوك والنـزعات الأدبية والقوالب القديمة.
أما في الفصل السادس والأخير (العقل الشعريّ الباطن) حيث الشعر في مواربته وتخفيه فقد ذهبنا الى الأعماق حيث تتحول الأسئلة إلى أجوبةٍ وتتصالح المتضادات، فبعد أن تتكاثر عيون الشاعر ويبدأ بالتقاط المشاهد الكثيرة يذهب باتجاه البروق والشطحات المعرفية التي تتصل بمياه الشعر العميقة ولذلك لا نقرأ الاّ جملاً متوحشةً صادمة غريبة هي باطن العقل الشعري وبعض قواه المكتنـزة الوامضة.
***
وختاماً..
فإننا لا ندّعي بأننا قدّمنا فتحاً كبيراً في مجال نظرية الشعر أو تأسيس العقل الشعري، بل كانت محاولةً منّا للسير في هذا الطريق الصعب، فهي محاولة قد تكون في بعضِ أوجهها ناجحة وقد لا تكون، لكننا على يقين بأن جهوداً أفضل وأكبر ستأتي بعدها لتصوَّبَ ما اشتطّ منها ولتفتح مغاور أخرى لم نتمكن من الوصول اليها.
إن ما قدّمناه في هذا الكتاب هو جهد ما يقرب من ثلاثين عاماً بين (1974 ـ 2004) من البحث والتأليف وكتابة البيانات الشعرية والمقالات الخاصة بالشعر والتي كانت المادة الأساسية الخام لفصول هذا الكتاب ونضيف لها تلك السجالات والحوارات المهمة التي دخلنا فيها مع الكثير من الشعراءِ والنقاد والمفكرين طيلة تلك الفترة الزاخرة بالجدل والإبداع. فقد حفزتنا كل تلك الأمور على محاولة تقديم رؤية معينة للشعر وللعقل الشعري.
***
كالفينو
(ست مذكرات للأعوام الألف القادمة)
مــقدمـة
العقـل الشعــري
يعترفُ هايدجر أن سبب اختياره للشاعر هيلدرلن ، نموذجاً لتبيان ماهية الشعر، إنما يكمن في أن هيلدرلن يرتكز على هذا التصميم الشعري الذي يتكون من تأمل ماهية الشعر نفسها، والتعبير بالشعر عن هذا التأمل، فهيلدرلن هو ،بمعنىً من المعاني عند هايدجر، (شاعر الشعراء) لأن الشعرَ كان موضوع شعره.
وبالرغم من أن تشخيص هايدجر كان دقيقاً لكنه لم ينبَِّه الى الخسارة الفادحة التي سببها هيلدرن لنفسه وللشعر حين أفسدَ شعره بالحديث عن ماهية الشعر، وحين لم يشرع بتوضيح ماهية الشعر عن طريق بناءٍ نظري مقنع أو حديث ممتع عن الشعر. هكذا كان يُضطر الشعراء للإفصاح عن ماهية الشعر.. فياللخسارة!!
لقد كانت موهبة هيلدرلن جديرةً بأن تنشغل بنصوصٍ شعرية لا بمضامين تتحدث عن ماهية الشعر. إن أغلب الشعراء لا يجيدون الحديث عن شعرهم أو عن الكيفية التي يكتبون بها الشعراء أو عن رؤيتهم للشعر، ولا يعدّ هذا عيباً، لكنّ قدرة الشاعر على أن يفعل هذا وأن ينظَّر للشعر، هي الأخرى، ليست عيباً. العيبُ الوحيد الذي يمكن أن يلازم الشاعر هو رداءة شعره وعدم قدرته على الإتيان بشعر نشطٍ وجديد ومغاير.
ظهرت القدرة على التنظير الشعري النوعي من قبل الشعراء أنفسهم مع ظهور الشعر الحديث في الغرب بعد منتصف القرن التاسع عشر، وكان بودلير أول شاعرٍ منظِّر مثلما كان أول شاعر حديثٍ بالمعنى الدقيق للكلمة. وقد وصل التنظير الشعري ذروته مع الشاعر ت. س. أليوت رغم أن تنظيراته كانت تنحى منحىً نقدياً أكثر من كونها تتجه نحو التنظير العميق للشعر.
وفي جميع الأحوال كان التنظير الشعري للشعراء أكثر صدقاً وأكثر قدرة على التعبير عن ماهية الشعر من الفلاسفة والنقاد وعلماء العلوم الإنسانية القريبة، فالشاعر أدرى بتلك الأغوار العميقة التي تخرج منها أشعاره وربما كان أدرى بموجـِّهاتها العقلية والفكرية.
كان لمفهوم العقل الذي وضعه ديكارت في منتصف القرن السابع عشر الأثر الكبير في ظهور فلسفة أوربية جديدة متماسكة تناظر الفلسفة الكلاسيكية الإغريقية الغاربة، وكان كتابه الأول الذي كُتب قبل 1629 (قواعد لتدبير العقل) يؤكد على أنه من بين ملكات المعرفة الأربع: (العقل، المخيلة، الحس، الذاكرة) لا يتهيأ لغير العقل وحده أن يدرك الحقيقة، لذلك يتحتم على العقل أن يزيد من أنواره لا ليحلّ صعوبةً بعينها من الصعوبات المدرسية. وقد شخّص ديكارت ملكتي العقل الأساسيتين وهما: الحدس، أي التصور الذي يصدر عن عقل خالص ومتيقظ في سهولة ووضوح بالغين، والاستنتاج
وبه نتعقل حقيقة من الحقائق على أنها نتيجة لحقيقة أخرى نحنُ منها على يقين. والحدس هو الذي يبلغ المعاني والحقائق الأكيدة التي لا ريب فيها مثل (أنا أفكر، إذن أنا موجود (Cogito ergo sum وهو ما أطلق عليه بالكوجيتو الديكارتي.
لكن صورة العقل لم تكتمل الاّ عند (عمانوئيل) كانت الذي نقد العقل المحض والعقل العملي وكشف بناهما الترانسدنتالية والإجرائية على التوالي.
وبعد (كانت) أصبح بإمكاننا الكلام عن عقل فلسفي يضمّ العقول الحدسية والمثالية والظاهراتية والواقعية والوجودية والوضعية والبراغماتية وغيرها) وعقل علمي ينظر في حقول العلم المعروفة، وعقل ديني يحاول إعادة تنظيم المعتقدات والأفكار الدينية في أنظمة جديدة، أما حقول الفن والأدب والشعر فقد ظلّت بلا عقل!!
كان علم الجمال مكاناً لمراقبة وجهات النظر الفكرية والفلسفية في أهمية الفنون وطبيعتها وكان عرضاً لعلاقة الفنون بالعلم والدين والأخلاق… الخ، وقد ظلّ هذا العلم يتردد بين الجدران الأكاديمية والمقولات الجاهزة التي رسمت له ولم يستطع سبر الأغوار العميقة للدافع الفني، أما الشعر فقد ظلّ ملحقاً هامشياً بالفنون يُذكر أحياناً لإضفاء الشمول على علم الجمال ومباحثه.
نرى اليوم ضرورة أن يظهر ما يُسمى بـ(عقل شعري) يُعنى بالنظر في ماهية الشعر وطبيعته ومشكلاته وأنواعه وطبقاته وأغواره، ويكون قادراً في الحدَّ الأدنى على توصيف ظاهرة الشعر، والفن والأدب عموماً ، التي أنتجها الإنسان في عموم العالم المعاصر أو القديم واستنباط قوانينه من تلك الظاهرة ونصوصها.
إن (العقل الشعري) هو أحد أطياف (العقل) والمعني بإنتاج الشعر ونظرية الشعر، وقد أطلقنا عليه أحياناً (الشعري) وهو يمتاز بشكل نوعي عن بقية العقول التي قدمها تاريخ الفكر والفلسفة، فهو عقلٌ نوعي لأنه معنيٌّ بالإبداع والخلق والإبتكار عموماً، إنه عقلٌ لا يفكر فقط بل يبدعُ ويجدُ مسارات جديدة للعقل الإنساني ككل، ولذلك نرى أن هذا العقل كان موجوداً في الماضي لكنه كان ينتجُ الشعر أكثر من إنتاجه النظر الشعري، ومع تقدم الإنسان وزيادة معارفه وإدراكه لمكنوناته الداخلية أصبحت قدرته على نتاج النظر الشعري أفضل وازدادت قدرته على إنتاج الشعر في الوقت نفسه.
نرى أن تكوين العقل الشعري ينطوي على بنيتين أساسيتين : الأولى هي البنية الشعرية المسؤولة عن إنتاج الشعر، والثانية هي البنية الميتاشعرية المسؤولة عن النظر والتأمل في الشعر. وتتماهى أحياناً الحدود بين البنيتين ويختلطُ حقلاهما في منطقة رمادية تصدر عنها تلك الشطحات والومضات الشعرية الخاطفة مثل تلك التي كان يتفوه بها نيتشه أو المتصوفة أو الكتب المقدسة في كثير من الأحيان.
هذا الكتاب يحاول أن يصف البنى المفصّلة للميتاشعرية من وجهة نظرنا لكننا آثرنا إطلاق تسمية (العقل الشعري) عليه لإيماننا بأن النصَّ الشعري أمرٌ يقوم به كلّ شاعر على وجه الأرض أما النظر الشعري (الميتاشعر) فهو أمرٌ لا تقوم به إلاّ قلة من الشعراء القادرين على وصف تجربتهم الداخلية في إطار فكري ومعرفي، ولذلك صار الميتاشعر رديفاً أقوى للعقل الشعريّ.
إننا نودّ أن ننوه بالكثير من التأكيد على أن لكل شاعر عقلاً شعرياً يستطيع أن يفرش خرائطه ومكوناته وسيناريوهاته كما يشاء وسيُزيد هذا من ثراء العقل الشعري إجمالاً، إلاّ إننا لا نستطيع ان نثقَ بما يحاوله ناقدٌ أو فيلسوف أو عالم جمال من وصف للعقل الشعريّ لأن الشاعر / المفكر حصراً هو الذي يستطيع ذلك ونرى أن المستقبل سيكون حافلاً بالشعراء المفكرين ، لأن شاعر الفطرة سينحسرُ بمجرد الانتباه الى ضرورة حماية وصيانة هذه الفطرة حتى النهاية بل وتحريضها على المزيد من العفوية والشراسة عند الشاعر المفكر وحينها سيكون الفكر سياجاً حامياً لهذه الفطرة لاسجناً لها كما حصل مع التجارب الفاشلة في هذا الصدد.
العقل الشعري هو أحد البنى الأساسية للعقل البشري ورغم أن العقل البشري واحدٌ في تكوينه لكنه يتضمن عدة بنى أساسية، فنحنُ نرى أن العقل الشعري هو نواة العقل البشري فهو يحتل المركز ويشكل جوهر الإبداع في كل العقول الأخرى حوله. وربما أحاطت بهذا العقل حلقات أخرى لكن الأساسي منها يتمثل بـ (العقل الديني، العقل الفلسفي، العقلي العلمي) وربما ظهرت حلقات فرعية بينها مثل العقل السياسي والعقل الإقتصادي وغيرها..
لكنّ العقل الشعري ،الذي نرى أنه مولّد الإبداع في كلّ العقول الأخرى ،ظلّ بعيداً عن الدرس والقتصّي ولم تفحص مكوناته بشكل دقيق بل أن الشعراء أهملوه ولم يسعَ كلّهم الى تحفيزه وجعله منتجاً للرؤى والنظريات والفكر الشعري، لكننا، اليوم، نرى ضرورة أن يقوم هذا العقل الشعري بدوره في إنتاج أنظمة جديدة من الفكر الشعري الذي سيساهم في إغناء نشاط العقل البشري وسيعمل على صيانة وإنعاش الإنتاج الشعري بل والابداعي بشكل عام.
إن البحث عن ( العقل الشعري) الذي ندعو إليه يجيء متأخراً بعد أن ترسخت العقول الأخرى وبعد أن كان هذا العقل، ذات يوم، مركز انتاج الأفكار والرؤى والأخيلة الأدبية والدينية والفلسفية والعلمية. وربما تقع محاولتنا هنا في إطار البحث فقط، لكننا نطمح من خلال هذا الكتاب والكتب القادمة الى محاولة تأسيس للعقل الشعري وسيكون بإمكاننا الحديث، بثقةٍ، عن هذا العقل مثلما نتحدث عن العقل العلمي والفلسفي والدينيبشكل خاص .
كان هذا العقل ومازال مسؤولاً عن قفزات الإبداع في كل العقول الأخرى لأنه النبض الأساس لكلّ العقل البشري. وربما ستسنح فرصة أخرى للبحث الدقيق في بناه التفصيلة رغم اننا حاولنا ذلك عبر محاضرة (غير منشورة) ألقيناها في اتحاد الأدباء العراقيين في الثمانينات عن (البنى العقلية) وسنقوم بنشرها في كتاب مستقل خارج هذا الكتاب.
أما هذا الكتاب فهو مانراه فاتحةً مقترحةً في حقل (العقل الشعري) الذي نحرَّض على ضرورة بنائه ورصفه واعتباره حقلاً معرفياً جديداً يُنعشُ العقول الفلسفية والعلمية والدينية التي تحيطُ به، بل يمكن للعقل الشعري النيء أن يكون مصدر شحنات إبداعية الى العقول المحيطة به ومركزاً لبثَّ القوى الى هذه العقول المطبوخة نوعاً ما، إن براءة وفطرية وعفوية العقل الشعري تجعل منه الطبقة الباطنية العميقة والطازجة والبذرية للعقول الفلسفية والعلمية والدينية، بل لعلنا ذهبنا إلى أبعد من ذلك في كتابنا هذا عندما اعتبرنا أن العقل الشعري هو مصدر الفلسفي والمعرفي والعلمي والديني وأن هذه الحقول التي تجمدت في مساراتها مازالت تنبضُ بين فترة وأخرى بفعل الشرايين التي يبثها فيها العقل الشعري، وان العقل الشعري ـ بعبارة أخرى ـ هو المسؤول عن الإنزياحات المهمة التي تحصل في العقول الأخرى وهو المسؤول بالتالي عن الإبداعات التي تنتج عن هذه الانزياحات.
ينقسمُ هذا الكتاب إلى خمسة فصولٍ أسمينا الأول فيها تسمية قريبة من التسميات الكانتية وهو (العقل الشعري الخالص) أي الشعر في ذاته، الذي هو عقل الرؤى والأفكار العالية (الترانسدنتالية) فهو بناءٌ مثالي خالص يصفُ شعراً مطلقاً خالصاً أو أنه يصف ماهية الشعر بشكل عام كما نراه وقد وضعنا أغلب بياناتنا الشعرية فيه، ففي (ميتاجماليا الشعر) رأينا أن للآدب والفنون منطقة جمالية ،أما للشعر فمنطقة ميتاجمالية وهو أول فصل ترانسدنتالي حيث قلنا أن الشعر ليس جنساً أدبياً وإن إدراج الشعر ضمن صنوف الأدب أو الفن هو من أكبر المغالطات التي شوّهت نظرتنا للشعر وضبّبت حقيقته، فالشعرُ حقلٌ أساسيّ من حقول الوعي البشري يشبه العلم والدين والفلسفة والفن وهو ليس أحد الفنون والآداب بل هو النبضُ المبدع في كل هذه الحقول ولذلك يجب أن نخلَّصه من كونهِ تابعاً الى كونِهِ متبوعاً أو مستتراً في أنسجة الحقول الأخرى. تصبح الميتاجماليا إذن مكاناً أوّليـّاً مناسباً للنظر الشعري ولتأمل الشعر والحديث عن جماليته الخاصة وهو ما يجعل الشعر ولعاً ميتاجمالياً يضربُ بعيداً في المدهش والمغاير واللامعقول واللاموجود. وفي هذا الصدد تمّ التفريق بين الشعر من ناحية والنثر والعلم والفلسفة والدين والأسطورة من
ناحية أخرى.
وفي (جوهر الشعر) حاولنا أيضاً فحص جوهر الشعر والجوهر الذي تحدثت عنه الفلسفة (أنطولوجياً ومعرفياً) وحاولنا التعرف على جوهر الشعر المنطوي على مركزين متلاصقين ومتضادين، في الوقت نفسه، هما (مركز اللوغوس ومركز الإيروس) ورأينا أن مركز اللوغوس هو نواة جوهر الشعر في حيث كان مركز الإيروس هو الفضاء أو النصّ الذي تظهر فيه شحنة الجوهر. ثم تتبعنا التاريخ السريّ لظهور جوهر الشعر في النصّ ورأينا أنه قد تدرّج في انضباطه القوي مع غاياته من البرهان الى البيان ثم العرفان ثم الرحمان حيث يتحرر الشعر شيئاً فشيئاً ليعبر في النهاية عن جوهره وماهيته.
لكننا في (فينومنولوجيا الشعر) ذهبنا الى ماهو أبعد من ذلك حين جعلنا جوهر الشعر يخرج من عزلته ليتخصّب بتسع رحلات أو حركات باتجاه المقولات الفلسفية المحيطة به، فقد وضعنا جوهر الشعر في مركز دائرة تحيط به تسع مقولات أرسطية هي (الكم، الكيف، الكيف، الإضافة، الزمان، المكان، الوضع، المُلك، الفعل، الإنفعال) ثم حرّكنا الجوهرَ باتجاهها ليتخصّب بها في رحلة تاسوعية تجعل منه جوهراً منفتحاً على قوى الفعل والوجود معاً.
أما في (إبستمولوجيا الشعر) فقد تحول العقل الشعري الى مرجعية معرفية غير مشروطة تختلف عن الإبستمولوجيا الفلسفية والعلمية وذلك عن طريق إقصاء المعلومة وتحويل الكتلة المعرفية الصلدة إلى إشارات وشفرات ورموز. وفي المقارنة بين الشعري والمعرفي ثم الشعري والفلسفي كشفنا عن التعارضات بينهما ومناطق اللقاء والنماذج فالميتافيزيقيا مثلاً تقع في الفلسفي لكنها في حقيقة الأمر منطقة تزاوج بين الفلسفي والشعريّ، لقد قوّضت العصور الحديثة، من خلال العلم والتيارات التجريبية ومن خلال النُظم الإبستمولوجية، فكرة العقل الكلي في الفلسفة والذي هو عقل فطريّ ذو طباعٍ بسيطة كما يقول (ديكارت) وأصبحت مناطق هذا العقل من حصة العلوم المختلفة، ولذلك غاب ذلك الطابع الشمولي في الفلسفات المعاصرة بل وانهزمت الميتافيزيقيا إلى جحورها مذعورةً، أي أن ساحة الكليّ عادت تتفرغ مرة أخرى إذ لم يعد بإمكان العلم ،القائم على التجريبية (وهو ناقدها وداحرها الأول) أن يحلَّ محلها، وقد شلّت الأديولوجيا قوة الديني وكان الأدب يتسلّى بالجزئيات ولذلك لم يكن غير الشعر مؤهلاً للقفز إلى منطقة الكليّ ولكن دون أن يقع في أخطاء الفلسفي.
أما في (ك / ن) فقد بحثنا في أُنطولوجيا الشعر من خلال ثلاثةِ حقولٍ متمايزة هي كون الوجود وكون الرؤية (حيث خرائط العقل الشعري) وكون اللغة (حيث خرائط النص الشعريّ). وكانت محاولتنا هنا بالإبتعاد عن الجهاز الإصطلاحي الفلسفي معتمدة على ابتكار جهاز إصطلاحي رؤيوي عماده الحروف. وفي كون الوجود (حيث خرائط الظلام) كان هناك مستويان الأول عياني ظاهري بيّن هو (ع) والثاني ضمني داخلي دفين هو (ن) وفي المستوى (ن) تكمن كثافة الكون والزمن، وأما المستوى الظاهري (ع) فهو المستوى الظاهر الذي يتجول فيه الإنسان، ويكون الخلق والإبداع بحركة (ك) بين المستويين (ن،ع). ويتعزز هذا السيناريو عندما نناقش كون الرؤيا حيث خرائط العقل الشعري التي تكون عبارة عن حُزمٍ من النظريات والرؤى التي تتماسك كلما اتجهنا صوب المستوى (ن)، الذي هو مستوى الرؤيا الضمني، وهو ما يدعونا إلى القول بأن نظريات العقل الشعري لا تتعارض مع بعضها بل يكمَّل بعضها الآخر في تماسك دال على العقل الشعري الضمني العميق (ن) الذي يعبّر عن العقل الشعري الباطن الذي تلتمع فيه أفكارٌ شعرية تتقافز فوق بعضها كأنها أمواج سابحة في بحر عميق.
إن جوهر الشعر، الذي ناقشناه سابقاً، تسيطر عليه هنا طرق نظر ورؤى، أما مادة هذا الجوهر فتتدفق. النظريات تمنح الجوهر شكله وخارطته أما تدفقه داخل خلية الشكل فيتمّ في النصوص الشعرية. إن النظريات الشعرية عبارة عن خرائط متداخلة مع بعضها يتولد من تقاطعاتها وثنياتها بؤر وإضاءات تفتح الطريق، هذه النظريات آيلةً إلى الدفن ولكن من نشوئها وموتها تتولد الطرق الشعرية الجديدة. قادمة من المستوى الضمني للعقل والكون فهذه الرؤيا الضمنية هي التي تقصُّ وتعدَّلُ وتمنح القصيدة الجديدة.
أما في كون اللغة فتظهر خرائط النص الشعري، التي هي أنعكاسٌ لهولوغراف عقلي ، وهي عبارة عن عقل شعري متكون من الإبداع والرؤيا . إن نموذج الخرائط الشعرية المقترحة لا يتطابق تماماً مع هيكل العلاقات في النصوص الشعرية لأن هناك توازناً قلقاً بين الخريطة (النموذج) والعلاقات (النصوص) وتعمل موجات التجديد الشعري دائماً على هدم هذا التوازن وخلق توازن آخر، وهكذا تكون الخرائط اللغوية والرياضية للنصَّ هي ترتيبات عالية جداً قادمة من المستوى المضموني (ن) وقد تبدو لوهلات عديدة أنها صيغٌ أو حركات عشوائية لكنها في حقيقة الأمر خرائط لترتيبات أو حركات بالغة الدقة لا يمكن لمساطرنا أن تضعها وفق مقاييس معروفة.
وتوصلنا مغريات البحث الذوقيّ هذا الى أن الشعر هو نظير العدم وأنه يصبح بطاقةٍ لا متناهية تسري في الكون كله وتقع في المستوى الضمني (ن) لكنه عندما يريد الظهور يتحجم في أبعاد محددة (أبعاد اللغة والزمان والمكان) بعد أن كان لا نهائي الأبعاد ولأنه فقد أبعاده اللانهائية فإنه يتقمص أبعاد المستوى العياني الثلاثة وربما الأربعة فيظهر ويتحول إلى قصائد في حين أن اللغة كلّها هي اهتزاز صغير في محيط شعريًّ هائل. وتنقلب معادلة الدال والمدلول والرمز، فالرمز هو الذي ينتج الدال وهذا هو الذي ينتج المدلول. ويتبع هذا أن الشعر هو الذي ينتج اللغة واللغة
تنتج المضامين أو المدلولات باعتبارها خزيناً شاملاً للعقل. وهكذا يكون العقل الشعري الخالص قد انتهى الى كونه ضمنياً وقد ساهمت اللغة والشعر في إنتاجه وتكوينه.
الفصل الثاني من الكتاب (العقل الشعري المحيط) هو الشعر لذاته، يكون العقل الشعري قد خرج من كمونه والإنغلاق في ماهيته إلى التجوّل في محيطه وفي علاقاته التي يشغلها مع هذا المحيط مثل المورث والنقد والسحر والأسطورة والتاريخ والمدنية والحداثة.
ففي (الشعر والموروث) يتم تبني التراث ،كاملاً ،كمعبِّرٍ عن شخصيةِ أمةٍ من الأمم ويجري التعامل مع مناطقه المعرّضة للضوء والمخبؤةِ في الأغوار بطريقة واحدة ، فهي ،كلّها، نتاج عقلٍ جمعيًّ جرى تكوينه وتحفيز ثماره في أزمانٍ مختلفة.ولذلك يكون الموروث دافعاً للإبداع والتقدم الى أمام، فقط، عندما يتحول الى مادةٍ خامٍ يقوم الإبداع بجعلها مادةً أوليةً لشعر جديد. ويكون الموروث العربي مادة هذا المبحث حيث نعثر فيه على الجذور اللوغوسية والإيروسية والشعبية للشعر العربي الحديث، ثم يتم نقل الموسيقي والرؤيوي من الموروث الى الشعر.كمثال لكيفية تسرب هذا الموروث الى الشعر الحديث.
أما في (الشعر والنقد) فنعالج بعض أخطاء النقد عندما يعالج الشعر، وأخطاء النقد عندما يكون في دائرة العلم أو في منطقة بين الأدب والعلم في ما يشبه مكان علم الكلام الأدبي. ولكن العودة الى النـزعة الذوقية في النقد تنقذه دائماً من آليات العلوم الإنسانية الحديثة التي قد تجعله جامداً آلياً. والنقد الذوقي هو ما نراه مناسباً للشاعر وهو يدخل منطقة النقد لأنه لا يريد أن يتحول الى عالمٍ في حقل العلوم الإنسانية ولذلك يكون النقد الذوقي هو الأقرب الى الشاعر من بين كل أنواع النقد.
أما في (الشعر والسحر) فقد حاولنا من خلال المنهج السيميائي دراسة العلاقة بين الشعر والسحر، ففي المرحلة قبل المنطقية كان السحر والشعر في نظامين مقفلين ومحدودين هما (الطقس واللغة) وبسبب من سقوط السحر في الطقس وتحرر الشعر من اللغة تداعى السحرُ وتناثر في الطقوس الدينية واخترق الشعر تلك العصور في حاضنات الدين والأدب. أما في المرحلة المنطقية فقد قامت الكتابة بحمل الشعر وتخليصه من كارثة الإندثار التي مزقت السحر إذ أن سيادة العلم في المرحلة المنطقية جعل الشعر يتخفى في الهوامش الدينية والأدبية هرباً من المنطق الذي يتسربُ في العلوم الصرفة والإنسانية ويحاول تسلق الأدب والفن أيضاً. أما المرحلة بعد المنطقية فيكون الشعر قد تخلَّص نهائياً من سطوة المنطق وأصبح حراً مستقلاً وبذلك يكون مناظراً لسيادة السحر في المرحلة قبل المنطقية، وهنا تتضح العلاقة من جديد بين السحر والشعر من خلال دلالة مقفلة ومفتوحة على التوالي. ونصل الى حقيقة أن النص السحري هو نصٌّ جيني والشعر نصٌّ متميز، الأول ظلَّ بسيطاً والثاني أصبح مركباً.
في (الشعر والأسطورة) ناقشنا الفرق بين المركزين الأساسين لهما ففي حين ينتظم الشعر في جوهر (لوغوسي / إيروسي) تنتظم الأسطورة في جوهر مقدس (إلهي) وتحاول الأسطورة تذكـّر حادثة خارج الزمان والمكان ورفعها الى مستوى المطلق. الأسطورةُ نصٌّ محكوم بأطار صارم والشعر نصٌّ منفتحٌ على كافة الإحتمالات. ويستمر البحث عن العلاقة بينهما سلباً أو إيجاباً أو توازياً،حتى نصل إلى الكيفية التي يجب على الشعر الاستفادة المثلى فيها من الأسطورة.
أما في (الشعر والتاريخ) فيجري الأمرُ وفق آلية أخرى فإذا كانت الأسطورة بنية مقدسة ثابتة غير كرونولوجية (متواترة) فإن التاريخ هو مسرى كرونولوجي من الأحداث ويسعى الشعرُ لتدمير البنى الصارمة التي أوجدتها التفسيرات الميتاتاريخية لمسرى الأحداث التاريخية. إن الشعر مع عفوية التاريخ وضد السجون والقوالب التي تصنعها فلسفة التاريخ وقوانين التاريخ وبحوث التاريخ وبكلمة أخرى (الميتاتاريخ)، فالشعرُ يجري في عروق التاريخ ويبتعد عن الميتاتاريخ، وهو يختلف تماماً عن الأسطورة لأنه ليس مقدساً ولامقفلا ً مثلها ، إنه الروح المرفرفة حول التاريخ وهو أقرب الى روح ونبض التاريخ منه إلى جسد وتفاصيل التاريخ ،وهكذا يعاود الشعر اتصاله بتاريخ الروح أيضاً ولكن ليس عبر صيغ أفلاطون أو كانت أو هيغل أو برغسون بل عبر الروح السريّ الذي يخترق العالم ويكمن في الدين والأدب والفن والفلسفة.
أما في بحوث (الشعر والمدنية) و (الشعر والحداثة) و (موت الحداثة) فإننا ندخل في ثلاث مناطق للبحث في قضية الحداثة في ربيعها وخريفها وشتائها، ففي المدنية والشعر نتوصل إلى أن الحداثة هي ناموس المدينة الغربية التي شملت كلّ قطاعات الحياة ومن ضمنها الأدب والشعر وأن هناك فرق بين حداثة الجوهر وحداثة التقنيات المظهرية، ثم نتناول الشعر العربي وفكرة الحداثة والمدنية والأخطاء التي وقع بها، وتعارض بنية الماضي مع مجرى الحداثة ثم ناقشنا النـزعات الفلسفية والتكنولوجية المعاصرة المضادة للشعر وبيّنا تهافتها.
أما في بحث (الشعر والحداثة) فقد أكّدنا على المفهوم الشمولي للحداثة وعلى ارتباط التكنولوجيا بها وعدم التعارض بين التكنولوجيا والشعر، لكننا ركّزنا على نزعة الاستهلاك المعادية لكلِّ تحديث ووجدنا أن الحداثة تحتاج دائماً إلى نزعةٍ كلاسيكية مستعادة بوعي لترصين منجزها. لكن الحداثة في الغرب تحتضر وتموت بسبب آلياتها الشمولية ونزعتها المركزية والكلاّنية والنخبوية لذلك كان بيان (موت الحداثة) محاولة لتخليص نزعة الحداثة من مهيمنات مؤسسة الحداثة ومركزيتها وأوهامها. إن موت الحداثة هنا لا يعني موت التحديث بل موت المؤسسة الأديولوجية الصارمة للحداثة التي أصبحت غولاً مخيفاً بسبب العنف الذي بدأت تمارسه ضد الشعر والأدب والروح والجمال.
الفصل الثالث (العقل الشعري الناطق) وهو الشعر في ظهوره من خلال اللغة تحديداً حيث جرى البحث في إعادة تعريف الشعر على أساس لغوي من خلال التمييز بين اللغة والكلام والخطاب، ثم البحث عن طبيعة اللغة الشعرية وما تحدثهُ في اللغة العادية لنمهد الطريق للحديث عن شعرية النثر والوزن. في (الغامض الجميل) يتم إعادة تعريف الشعر على ضوء ما أنتجته حركة النقد الجديد والعلوم الإنسانية الحديثة فيتم التوصل الى أن الشعر هو كلام الكلام، ويمتاز هذا الكلام بصفتي الغموض والجمال، ويتم ايجاد تبريرات لغموض وجمال الشعر من خلال غموض وجمال الطبيعة والذات واللغة، ويجرى التمهيد لقصيدة النثر وللشعر النثري من خلال إثبات أن الشعر هو إلتقاء نثرين أحدهما غامض والآخر جميل ولا ضرورة هنا لشروط أخرى موسيقية أو هندسية، بل لعلّ النص الغامض يشير الى جوهر الشعر وغموضه، والنص الجميل يشير الى الشكل المفتوح لهذا الجوهر. وهو ما يشير بوضوح إلى تراصف جنسين بذريين في غلاف واحد هما قصيدة النثر والنص المفتوح كتعبير عن جوهر الشعر وفضائهِ المفتوح.
في (الشعر واللغة) يجري البحث في آليات المغامرة اللغوية في الشعر على مستويات الصرف والبلاغة والأسلوب، والبحث عن لغة الشعر المستحيلة التي تخترق سلطة الواقع وسلطة اللغة والتوقف عند طاقة الشعر التي لا تنتهي ولا تتبدل ولا تُستهلك داخل الشكل الشعريّ، ويجري غسل الكلمات وشطفها من الإستعمالات القديمة لجعلها في استعمالات جديدة تنبضُ بالحياة، ثم العودة الى علاقة الشعر بالكلام، وعملية تنشيط اللغة عن طريق الشعر.
في (شعر النثر وشعر الوزن) نصنع نموّاً منطقياً لظهور الشعر من خلال اللغة دون لوازم وعكازات بلاغية ووزنية وقافّية. فالشعر في النثر يظهر في أول براءَته لأنه معنيٌّ بتبديل المعنى ثم تبدأ أغطية البلاغة ثم أغطية الوزن ثم الشكل الهندسي الوزني ثم القافية وهكذا يُثقل الشعر بلوازم تبعده عن حقيقته. والمدهش في الأمر أن هذا التطور المنطقي الموضوعي للشعر يظهر معاكساً للتطور التاريخي للشعر.
في (قصيدة النثر) جرى التأكيد على أنها عودة الى جوهر الشعر وتقدمٌ نحو فضائه في الوقت نفسه، فالاقتصاد اللغوي فيها والكثافة الشعرية والتخلي عن شروط الإيقاع المسبقة جعلها تقتربُ كثيراً من الشكل البدائي لجوهر الشعر ولكن هذا لا يعني تخلفها بل نفضها للقيود الموسيقية والهندسية الصارمة التي قيّدت الشعر وأنهكته والعودة الى يراءَته الأولى وقدرته على النفاذ في أعمق وأبعد وأعقد الأمور بلغةٍ كثيفةٍ وواضحةٍ. ويحاول البحث أن يتقصى الجذور العميقة لقصيدة النثر العراقية فيجدها في الشعر السومري الذي كان يخلو من الوزن والقافية وكان عفوياً بطريقةٍ مدهشة. ثم يحاول البحثُ النظرَ الى قصيدة النثر العراقية الجديدة.
وفي (قصيدة الصورة) يتمّ تناول أحد عناصر الشعر الأساسية وهي الصورة الشعرية باعتبارها الوحدة التي يمكن أن تتألف منها قصيدة قصيرة اسمها (قصيدة الصورة) ويجري تتبع ظاهرة قصيدة الصورة هذه منذ القدم حتى العصر الحديث ثم تدرس الصورة وقصيدة الصورة من خلال المجاز الأسلوبي وتقنيات الأداء في قصائد الصورة التي كتبناها في عام 1990.
في الفصل الرابع (العقل الشعري العملي) حيث الشعر في تحققه وإنجازه ينطلقُ العقل الشعري ليمارس فعاليته الحقيقية عبر النصوص المتحققة مراقباً مرجعياتها النظرية ومنظماً لها بعد أن تكون التجربة الشعرية قد نضجت وانتهت. فالعقل الشعري العملي عقلٌ يحاول أن يصنِّف وينظِّم أشكال ومرجعيات النصوص الشعرية. وإذا كان العقل الشعري الناطق قد بحث في علاقة الشعر مع محيطه فإن العقل الشعري العملي سيقدم الوصفَ النظري لما تحقق من الشعر نصوصاً. وقد كانت النصوص التي كتبناها هي القرب لنا منسجمين مع شرط العقل الشعري في أن يقوم الشاعر بالتنظير للشعر بعامة
وأن تكون نصوصه الشعرية أمثلةً قابلةً للفحص والنظر بخاصة، ففي هذا الفصل قمنا بتناول كلّ ما كتبناه من شعر على مدى ثلاثة عقودٍ تقريباً وصادف ذلك أننا وضعنا أربع مجلدات لأعمالنا الشعرية يتقدم كلّ مجلد مقدمةً نظرية تتناول الإطار العام لمجاميع وقصائد كلَّ مجلد، فالعقل الشعري العملي هنا معبَّرٌ عنه بمقدمات تصفُ وتنظِّم وتحلل القصائد والنصوص الشعرية.
ظهر المجلد الأول من الأعمال الشعرية وهو يحتوي أغلب قصائد النثر التي كتبناها في مجلدٍ لست مجموعات شعرية وكانت مقدمته بعنوان (الشعر الشرقي) وهي رؤيا خاصة للشعر الشرقي، كما نراه وكما نتمناه، فهي ليست معنيةً بتقصي وفحص ودراسة الشعر الشرقي القديم وليست معنية بالبحث في تفاصيل تاريخه والتعريف بأهم مراحله وتحولاته ولكنها محاولة للنظر إلى الإمام إنطلاقاً من تراث شرقي سابق، إنها سعيٌ لوصف شعر شرقي جديد حاولت قصائد هذا المجلد الشعري أن تجسده. المحاولة هنا تكن في إشعال الجذوة الكامنة في الشعر الشرقي القديم وجعلها تتـّقد وتشعُّ في شعرٍ شرقيٍّ جديد يبتعد عن السجون الشكلية والزخرفية للشعر القديم ويحاول أن يكسر قمقمَهُ ليطاول ويتخطى الشعر الغربي المعاصر الذي نرى أن شيخوخته قد حلّت مع نهاية التيارات الحديثة ولم تعد روحه تقوى على الصمود أمام سياط الاستهلاك التقني التي جلدته كثيراً وأنهكته، ثم تتناول المقدمة أنماط وأنواع الشعر الشرقي القديم والوسيط والحديث (الفولكلوري) وصفاته ومميزاته العامة، وتحاول المقدمة استنطاق النصوص الشعرية في هذا المجلد وإظهار صفاتها ومكوِّناتها الشرقية.
في المقدمة الثانية (السحري والإيروسي: كيمياء اللغة والجسد) حاولنا تتبع مجريات الشعر المقدّس والشعر المدنّس من خلال كشف الجوهر الأساس لكليهما فالشعر المقدس ذات جوهر إلهي دينيّ، أما الشعر المدنس فله جوهر جنسي دنيوي، ويجري من جديد تتبع ما نتج من شعر ديني أو دنيوي عبر التاريخ، فقد أنتج تاريخ الدين (التميمة، الترتيلة، الأسطورة، الكتاب المقدس) كأنواع شعرية ذات جوهر إلهي مقدّس)، بينما أنتج تاريخ الأدب الدنيوي (الأغنية، الحوارية، الملحمة، القصيدة) كأنواعٍ شعرية ذات جوهر جنسيًّ مدنّس كمترادفات للأنواع الدينية. وعاشت جميع هذه الأنواع في تداخل وتواشج. ورغم ان (القصيدة) أصبحت هي الشكل المعاصر للشعر وورثت طاقة الشعر الديني والدنيوي.. الاّ أن هناك ما يُغري لفتح فضاء الشعر من جديد وإنعاش الانواع القديمة في سياقات جديدة تتخطى (القصيدة) وهو ما سنفعله لاحقاً في بحثنا عن (النص المفتوح). وفي علاقة الشعر بالسحر حاولنا إعادة تقسيم الشعر على ضوء تقسيم السحر إلى أنواع ثلاثة وبحثنا في علاقة الشاعر بالساحر، أما في علاقة الشعر والجسد فقد بحثنا في طاقة الإيروس وطاقة الشعر. ثم تناولنا كيمياء السحر والجسد في المجموعات السبع التي يحتويها هذا المجلد.
في المقدمة الثالثة (الشعر الغنوصي) حاولنا بناء نظرية طموحة لما نرى أنه شعر غنوصي (عرفاني) مارسنا كتابته طويلاً في نصًّ لعله الأطول في كلَّ أعمالنا ذلك هو (خزائيل) الذي يتكون من إثني عشر كتاباً شعرياً ضمَّها المجلد الرابع المسبوق بهذه المقدمة النظرية. ورغم أن (خزائيل) ينتمي من حيث الإجراء والتقنية والشكل الى (النص المفتوح) إلاّ أنه ينتمي من حيث المضمون والمكنون والمعالجة الى (الشعر الغنوصي).
بعد أن نعرِّف بالغنوصية وتاريخها نحاول استنطاق النصوص الغنوصية الشعرية القديمة الكامنة في نصوص الأساطير وبعض النصوص العربية الإسلامية الوسيطة، ثم نقوم بترحيل الغنوصية من الأديان والفلسفة نحو الشعر ونبني الهيكل الغنوصي الشعري الجديد الذي يعيد الاعتبار للجسد ففي ميثولوجيا الغنوص الشعريّ نرسم دورة الكلمة والغنوص الصاعد ودورة الرموز والغنوص النازل. ثم نأتي على تتبع دورات الغنوص الصاعدة والنازلة.
في المقدمة الرابعة (النص المفتوح: سينوغرافيا الفضاء الشعري) يجري البحث في طبيعة النص المفتوح الذي ينفتح عمودياً نحو الماضي وافقياً نحو الأنواع الكتابية المجاورة له، أي أن الشعر يتخصب هنا بآليات وطرائق قديمة وجديدة تكمن في نصوصٍ غير شعرية، ونخرجُ من البحث في أنماط الشعر القديم والنص المركّب إلى إمكانية تمثّل النص المفتوح لفضاء الشعر الملحمي، وعلى مستوى اللغة والخطاب فإن الشعر هو نصٌّ مفتوح بين الكلام والتأويل عبر سلسلة من تداعيات اللغة والكلام والخطابة والكتابة والنص والقراءة والتأويل. إن النص المفتوح يمثّل سينوغرافيا الكتابة ويحاول أن يطبع سينوغرافيا الحياة في فضاء مفتوح. ولذلك فهو يستفيد من آليات الفنون ويحفزَ بها انتاج أنواعٍ جديدة من النصوص المفتوحة، ونرى أن هذه الأنواع كثيرة جداً لكننا نحاول كشف ما كتبناه من نصوصٍ في هذا المجال ونؤكد على أنواع معينة مثل نصوص (السيرة، اللعبة، المخطوطة، الريبورتاج، الباطن)، ثم تأتي مرحلة التطبيق وتناول النصوص المفتوحة التي يضمها المجلد الثالث.
وبذلك نكون قد تحدثنا عن العقل الشعري العملي إنطلاقاً من تجربة شعرية مكتوبة ونصوصٍ.
في الفصلين الخامس والسادس لجأنا الى تقسيم آخر للعقل الشعري فبعد أن قسّمناه في الفصول السابقة الى ثلاثة عقول هي (الخالص، المحيط، الناطق،) حيث يتدرج العقل الشعري من ماهيته الى محيطه إلى البحث فيه، وبعد أن تقصينا العقل الشعري العملي من خلال النصوص الشعرية لجأنا هنا الى تقسيم آخر يقسم العقل الشعري إلى (ظاهر، باطن) حيث تطفو على سطح العقل الشعري الظاهر أسئلة وعلاقات الشعر والشاعر بينما يزدحم العقل الشعري الباطن بالبروق والشطحات الشعرية.
• ففي الفصل الخامس (العقل الشعري الظاهر) حيث الشعر في خداعه ومكره تتبعنا قطبي الشعر في مترادفات أو متضادات مجتمعة مثل التأسيس والتحريض والشعراء الأضداد وغيرها ثم بحثنا في سؤال الشعر فهل هو الشخص أم الإستعارة أم المخيلة أم المفهوم أم القطيعة أم الأمتداد أم الزمن أم الكيمياء أم الوظيفة أم المجاورة أم الجسد؟ وانتقلنا بعدها الى سؤال الشاعر الداندي البوهيمي وبحره وحدائقه وعقله وتعدده. ونكون بهذه الأسئلة والمترادفات والأجوبة القلقة قد مررنا على العقل الشعري الظاهر الذي تطفح فيه الشكوك والنـزعات الأدبية والقوالب القديمة.
أما في الفصل السادس والأخير (العقل الشعريّ الباطن) حيث الشعر في مواربته وتخفيه فقد ذهبنا الى الأعماق حيث تتحول الأسئلة إلى أجوبةٍ وتتصالح المتضادات، فبعد أن تتكاثر عيون الشاعر ويبدأ بالتقاط المشاهد الكثيرة يذهب باتجاه البروق والشطحات المعرفية التي تتصل بمياه الشعر العميقة ولذلك لا نقرأ الاّ جملاً متوحشةً صادمة غريبة هي باطن العقل الشعري وبعض قواه المكتنـزة الوامضة.
***
وختاماً..
فإننا لا ندّعي بأننا قدّمنا فتحاً كبيراً في مجال نظرية الشعر أو تأسيس العقل الشعري، بل كانت محاولةً منّا للسير في هذا الطريق الصعب، فهي محاولة قد تكون في بعضِ أوجهها ناجحة وقد لا تكون، لكننا على يقين بأن جهوداً أفضل وأكبر ستأتي بعدها لتصوَّبَ ما اشتطّ منها ولتفتح مغاور أخرى لم نتمكن من الوصول اليها.
إن ما قدّمناه في هذا الكتاب هو جهد ما يقرب من ثلاثين عاماً بين (1974 ـ 2004) من البحث والتأليف وكتابة البيانات الشعرية والمقالات الخاصة بالشعر والتي كانت المادة الأساسية الخام لفصول هذا الكتاب ونضيف لها تلك السجالات والحوارات المهمة التي دخلنا فيها مع الكثير من الشعراءِ والنقاد والمفكرين طيلة تلك الفترة الزاخرة بالجدل والإبداع. فقد حفزتنا كل تلك الأمور على محاولة تقديم رؤية معينة للشعر وللعقل الشعري.
***