الاثنين، 15 أغسطس 2011

أفول الدكتاتوريّات الشعريّة



أفول الدكتاتوريّات الشعريّة
 حاوره :علي السومري
 
 تاريخ النشر       14/08/2011 12:00 AM
 

خزعل الماجدي:
شاعر وباحث سومري الجذور؛ كان الشعر، بالنسبة اليه، جوهر حياته ولولاه لما كان، فهو الذي صنعه وسط كوارث وعتمة هذه الأمة والوطن. إنه الشاعر الدكتور خزعل الماجدي الذي دأب منذ زمن طويل على قراءة ما تجود به أرض العراق القديم من رقيمات طين، مدوناً إياها في كتب ورقية؛ تحاول إعادة هيبة حضارة قرضتها الأفكار الشوفينية. في هذا الحوار الذي أجرته معه «الأسبوعية» يجيب الماجدي عن أسئلة متشعبة، لكنها تنبثق من بؤرة واحدة؛ رؤية الواقع في خضمّ العاصفة الفكرية والسياسية.





■ كيف ترى حركة الشعر العربي عموماً، والعراقي خصوصاً؟ وما يعني الشعر لك.. ألا يزال كما عرفته من قبل «الكلام الغامض الجميل»؟
- كنا نقول دائماً أننا الآن في منعطف تاريخي، وكان ذلك وهمًا، لكننا اليوم، في عالمنا العربي، في منعطف تاريخي حقيقي، لأن الشعوب العربية بدأت تفيق فعلاً وتفهم حقيقة مايجري، ولم يكن الأمر بفعل تطور حضاري أصاب العرب، بل بفعل التطور النوعي الكبير لوسائل الإتصال وانفجار وسائل وطرائق الإعلام التي حركت هذه الشعوب، لكننا لم ولن نصل الى مستويات المجتمعات الحضارية الغربية، نحن الآن في بداية طريق حضاري طويل.
الشعر العربي غير بعيد عن هذه التحولات، وأرى أن عصر الدكتاتوريات الشعرية الموازية للدكتاتوريات العربية بدأ بالأفول هو الآخر، أصبح الشعر العربي اليوم بلا «فحول» وصرنا أمام لوحة غير مركزية للشعر، لقد تم تجاوز تمركز القوى الكبيرة كالسياب والبياتي ونزار قباني وأدونيس ومحمود درويش وغيرهم، أصبحنا اليوم أمام لوحة فسيفساء جميلة جدًا يتراصف فيها الشعراء الذين ظهروا منذ السبعينات العربية الى اليوم من دون محاولة للتمركز، صرنا متجاورين ولكل منا طعمه ولونه، في حين كان اللون الواحد للشاعر المركزي طاغيًا على الكثيرين، أو على مرحلة بكاملها. والحقيقة أن هذه هي الصورة التي تليق بالشعر، لأن الصورة المركزية هي من بقايا السلطة الثقافية ومركزيتها وكذلك من بقايا التراث الذي يمسكه، مركزيا، شعراء كبار والبقية على الهامش، وهو مشهد غير رحيم وغير منصف.
ومع ازدياد تفكيك الدكتاتوريات العربية تزداد الحاجة إلى الابتعاد عن المركزية، والاقتراب من نصاعة الصورة الفسيفسائية التي ينتظم فيها الجميع بكل ألوانهم وأحجامهم المتقاربة. أتوقع أن تنتهي نبرة الخطابة في الشعر الى الأبد وسنكون أمام شعر حميم يحتفي بوجود الإنسان ككائن جميل وضعيف أيضا..وليس كسوبرمان خيالي كما صوره الشعر السابق.
الشعر العراقي يتنفس بصعوبة في داخل العراق، في حين أنه أكثر حرية ونضجًا في خارجه، السلفيون وأتباع الدين السياسي يجرّون الشعر العراقي الى العصور المظلمة بعد أن كان طليعة الثورات في الشعرية العربية ولكنهم لن يفلحوا لأنهم ضد العصر وضد الحياة.
الشعر بالنسبة إلي هو جوهر حياتي ولولا الشعر لم أكن فهو الذي صنعني وسط كوارث وعتمة هذه الأمة والوطن. كان تعريفي له بـ«الكلام الغامض الجميل « واحدًا من تعريفاتي الكثيرة له، لكني أعتز بهذا التعريف لأنه جاء في وقت حاولوا فيه الذهاب بالشعر الى ساحات الحرب والسلطان والمال، وكنت أقاوم بتعريفاتي وبحوثي ومقالاتي عن الشعر، بل بنصوصي هذا المد الطاغي آنذاك.
■ وهل نجحت؟
- تماماً، فقد ساهمت بإنقاذ جيل السبعينات من الذهاب في هذا التيار السلبي وأنقذنا حداثة الشعر العراقي من التبدد، ونتج عن ذلك ظهور جيلي الثمانينات والتسعينات اللذين كافحت نخبهم الواعية والموهوبة لرفع راية الشعر الحقيقي.
■ هل ترى أن الشعر بدأ يترك مكانته الثقافية لغيره من الفنون والآداب الأخرى، حتى قيل على لسان بعض الباحثين بأن زمنه ولى ولم يعد سيّد الفنون والآداب؟
- لا أعتقد بذلك، لأن الحاجة إلى الشعر تقع في جوهر الشكل الثقافي الحديث بأكمله. لا يمكن نسيان مافعله الشعر الحديث في بنية الثقافة العالمية والعربية، فهو الذي تحمل عبء الحداثة الأكبر قبل غيره من الأجناس الأخرى، ولذلك ستبقى الحاجة إليه كشحنة متقدمة القوة في التحديث والتقدم نحو الآفاق الجديدة للكتابة كلها، ربما هناك ولع كبير بالسرد وبالرواية الآن، وهذا أمر طبيعي حيث تنمو بعض الأجناس الثقافية في زمن معين، وتتراجع في زمن آخر. الشعر، أو المنظومة الشعرية، هي جوهر الآداب والفنون وليس من السهولة زواله إلا اذا زالت الاداب والفنون وهو أمر محال.
■ لنتكلم عن العراق في مشهدين؛ الأول، زمن دكتاتورية انعدمت فيه الحريات كليًا، وآخر بعيد سقوطها لتشع الحرية بلون فاقع، ماذا ترى على المستوى الثقافي، هل أنتجت الحرية ما كانت تفتقده زمن الفاشيست؟
- لم نكتب في زمن الدكتاتورية كل ما نريد، لكننا كتبنا ما استطعناه، وكان له أهمية كبيرة لأنه كان يتضمن حسرتنا في كتابة أكثر حرية، كان محتشدًا برغبات مكتومة، وكنا نتفنن في إخفاء احتجاجاتنا ضد هذا النظام، وكان لذلك طعم خاص ونادر، لا سيما على مستوى الشعر والمسرح. أما بعد سقوط الدكتاتورية فقد حل عصر ظلام حقيقي في الثقافة العراقية فقد جاءت الحرية مشوبة بالفتن الثقافية وكيل الاتهامات، والتنابز بين المثقفين والمبدعين، وكان هناك عزل لبعض منهم، وكانت هناك مهادنة مع تيار الدين السياسي الذي قاد الحكومة وخيم بروحه الاتباعية على المجتمع والرأي العام، وبذلك لم تنتج الحرية فضاءها الثقافي الحقيقي. والغريب أن روح الابتكار والتجديد قد خفتت، وعلا صوت أشباه المثقفين الذين يكتبون الخواطر الشعرية. توهم الكثيرون أنهم أدباء وشعراء ومفكرون لأن الكتابة تعني عندهم ظهورًا اجتماعيًا ووجاهة، وساهمت وسائل الانترنت بذلك.
أعتقد اليوم أن هناك أزمة حقيقية تمسك بالثقافة العراقية وتمنعها من النمو والتجدد.
■ ما طبيعة هذه الأزمة؟
- أعتقد أنها أزمة ذات أبعاد فكرية وروحية وفنية، وهي موازية تمامًا للأزمة الساسية والإجتماعية التي يمر بها العراق، نحتاج الى طريقة أكثر تحضرًا لبناء شخصيتنا العراقية؛ لا من خلال العشائر والطوائف، ولا من خلال الأحزاب السياسية وأتباعها، بل من خلال صيغة حضارية شاملة مبنية على أسس علمية حديثة. لا أكتمك سراً عندما أقول لك إني اكتشفت، بعد سقوط النظام السابق، أن مشكلتنا ليست سياسية فقط (الدكتاتورية والأحزاب الشمولية) بل هي مجتمعية أولاً، وأعني بذلك أنَّ مجتمعنا لم يكن مبنياً على أسس صحيحة، ولم يكن هناك عقد اجتماعي ضمني بين مكوناته، اكتشفت أنه مجتمع مفكك، وكانت القيادات السياسية الحاكمة تخفي حقيقة هذا التفكك وتتستر عليه، ولم تسعَ الحكومات العراقية إلى بناء مجتمع عراقي حديث، بل ظل هذا المجتمع يخوض في انهياراته الداخلية حتى كاد يتشظى، بل هو مازال يعاني أزمة ثقة وخوف بين مكوناته، وما هو مطلوب اليوم هو أن نقيم قانونًا مدنيًّا علمانيًا حقيقيًا لبناء هذا المجتمع، وجعله ينبض بقلب واحد وأطياف متعددة؛ يجب احترام كل ثقافاته الخاصة واعتبارها كنزًا حقيقيًا لثرائه العام وشخصيته المركبة الحضارية عميقة الجذور.
ولذلك أقول إن على الثقافة العراقية أن تبذل جهودًا جبارة للبحث في النسيج الثقافي المتنوع والعميق للعراق المعاصر الذي ورث كل هذا الماضي السخيً، أزمة الثقافة العراقية أنها اليوم، في مواجهة كل هذه المشكلات، ظلت صامتةً عنها لقرون طويلة. ولايحل ذلك إلا البحث العلمي الرصين في مختلف قطاعاتها لا البحث الاديولوجي السقيم والمسطح الذي شوه ثقافتنا العراقية ونخرها.

■ سلسلة الفقدانات الكبرى هي التي تقف وراء الإنجازات الإبداعية العظيمة، منذ فقدان جلجامش صديقه أنكيدو، وقيس ليلى، والإنسان حريته، كيف يرى الماجدي فاجعة الفقدان، هل عبر ابتلاع مرارة الصمت، أم في ترك الجرح ينزف بالكتابة والصراخ داخل القصيدة؟
- جوابي واضح في مافعلت عندما فقدت ولدي، فرغم الجراح الكبرى للفقدان وهجران الوطن ورعب عائلتي، لكني سرعان  ما وقفت على قدميّ بقوة وكتبت «أحزان السنة العراقية» وهي ليس بالعمل السهل، فهي أقرب الى العمل الملحمي. لابد أن نقول كل شيء، ونبوح بصراحة شعريًا وروحيًا وفنيًا وفكريًا، ليس على شكل جرح ينزف بلا نهاية، بل عن طريق فهم إبداعي أساسه الصدق، ويقينـًا ستعمل خبراتنا الفنية والجمالية على حسن التدبير وستقدم لنا كل ماهو جديد أيضا.
أود أن أقول إن على الشعراء والمبدعين العراقيين الكفّ عن البحث في بطون الحداثة ومابعدها، عن الأشكال الفنية الجديدة، لأنهم يملكون خزين حياةٍ حارًا ومذهلاً، يمكنهم، بقليل من الذكاء والتدبير، أن يصنعوا منه أشكالاً فنية وجمالية لاعهد للحداثة ومابعدها بها، صدقني أن تحت تاريخنا المعاصر، وبين أيدينا خامات ذهب الشعر كله، وماعلينا إلا الانتباه لها بعيون ثاقبة ومرهفة لنحولها الى آيات وكنوز من الإبداع.
■ وهل توصلت إلى صيغة خميائية ناجحة للحصول على هذا الذهب؟
- ربما، فرغم ألمي الشخصي وجراحي التي تصرخ بي ليل نهار، أفتح عيوني الألف، كلّ يوم، من خلال المأساة، على حقول لاتنتهي من الإبداع. أنا الآن لا أحتاج إلاّ الوقت لكي أكتب المزيد من هذا. لكن صيغة الخيمياء التي وصلت إليها لم تأت من ترف أو استرخاء، فقد صاغتها آلامي ومعاناتي وصاغتها أيضا تجاربي الفنية السابقة.
■ كتابك الأخير «أحزان السنة العراقية» الصادر عن «دارالغاوون» يعج بالألم، يكفي أن نقرأ فيه: «وقبل هروبي من جهنّم أمام نهر دجلة وقفتُ، وبكيت، أمام نصب الحرّية، أمام بغداد، لكن دموعي سقطت وبغداد لاهيةٌ عنّي بدخانها وقلت لها؛ جئت لأودّعكِ. فقالت: أتركْ لي شيئاً أتذكّرك به، قلت: تركتُ ولدي« هل هذه صورة بغداد التي تذكرها اليوم فقط؟
- كانت هذه هي آخر صورة لبغداد، وهي صورة يصعب نسيانها. لكن بغداد في عقلي وضميري وثقافتي محتشدة الصور، وكي أكون واقعيًا أقول لك إن في بغداد نهرين من الجمال والدم، فنهرها الجميل هو كلّ ماتركه العظماء من مبدعيها القدماء والمعاصرين من شعر وعمارة وفن وأدب وفكر وثقافة وفلسفة وتراث روحيّ، أما نهرها الدموي ففيه صورة أغلب حكّامها وجلاديها وسجّانيها ومحتليها ومشعلي حرائقها وسافكي دم أهلها ومخربيها. التاريخ لا يرحم،  فقد التقط صورًا للجميع بما هم عليه فعلاً، وعلينا من أجل نظرةٍ سليمةٍ أن نرى الأمور كما حصلت، وأنا اليوم أنظر الى صورتي بغداد هاتين كي لا أنسى ماحصل لي ولولدي ولوطني.
■ يشكل النقد نوعًا من المعايير الأدبية يدركها معظم الشعراء؛ كلٌّ بحسب ثقافته، نقد يتيح معرفة القصيدة من سواها، كيف يمكننا اليوم معرفة معايير القصيدة بغيابٍ شبه كامل للنقد؟
- القصيدة العراقية بشكل خاص والعربية بشكل عام كانت وما زالت تعاني قصور النقد وعجز مناهجه وأدواته، وقد نما الشعر العراقي الحديث يتيمًا لا نقد يرعاه في جميع مراحله، وكان الشعراء، في ما بينهم، هم من يقومون بدور النقد، وهم من يحددون مقاييس الشعرية وفحص النصوص، وكان النقاد، وما زلوا، على هامش المتن الشعري بعيدين عن عنفوانه واضطراباته وتحولاته، لقد شهدت الشعرية العراقية، منذ الستينات والى اليوم، تحولات كبيرة وخاضت في مناخات لا عهد للشعر بها سابقا، وكانت هناك ألوان كثيرة جديدة  لكن النقد كان صامتـًا ومرتبكـًا ومتملقـًا في الكثير من  الأحوال، لقد خلط الأوراق علينا، دائما بتهافته وهزاله. ولذلك أقول إن الشعراء؛ هم أولاً، ثم الجمهور المتابع للشعر وحسن تذوقه ثانيًا هما الوسيلتان الناجحتان لمعرفة معايير القصيدة دائما. سيكون من السعادة لو ظهر نقادٌ حقيقيون يقومون بدورهم التاريخي، ولكني لا أرى أحداً.
■ المثقف والسياسي، من يجب ان يخشى من في رأيك؟ وماذا تقول لتلك الطوابير التي تقف طويلا في بعض المناسبات على باب الساسة من أجل قرض الشعر بحضورهم، حتى شكلوا، معًا، صورة يدٍ ممدودة؟
- المفروض أن لا يخشى أحدهما الآخر، فهما يشكلان وجها العملة الواحدة، لكن السياسة في بلداننا لا تشبه السياسة في البلاد المتطورة، فهي، عندنا، فن الكذب واللصوصية والقتل والتخريب والفتنة والفرقة، أما هناك فهي فن البناء والعمران والمحاسبة ونمو الحياة والبلدان. السياسة في بلداننا يمارسها الجهلة والأميون أكثر من سواهم، وهي فن التسلط على الآخرين وقيادتهم والتحكم بهم وتحويلهم إلى قطعان، أما هناك فالسياسة علم من العلوم الإنسانية وعلى من يمارسه أن يكون مطـّلعًا على تراث البشرية في هذا المجال، وعادة ما يمارسها الأذكياء والمتعلمون والنابهون.
كل هذا، في بلداننا، أسهم في ظهور إشكالية بين المثقف والسياسي، ولأن مثقفنا ليس شجاعًا بما فيه الكفاية، فقد أصبح تابعًا للسياسي أو متحاشيًا إياه، في حين أنه يجب أن يكون أول من يقف في وجهه ويقومه. هكذا تزيّفت العلاقة، لأن المثقف والسياسي موجودان بطريقة بناء خاطئة، ولذلك نرى المثقفين وهم يتبعون السياسيين، لأن هؤلاء السياسيين هم أصحاب السلطة والمال. أنا مثلك خجل من مشهد صورة اليد الممدودة.. فهي عار مثقفينا مع الأسف.
■ لكتبك سوق رائجة، لا أريد أن أخبرك بأن ما كتبته عن الحضارات العراقية وأصولها، و طقوسها قد أصبح من المراجع المهمة لدارسي تاريخنا، ما رسالتك التي علينا تلمسها من وراء جهدك المعرفي؟
- دعني أولاً أوضح لك طبيعة مشروعي المعرفي حتى يمكنني وصف رسالتي فيه بدقة. يتكون هذا المشروع من أربعة أقسام هي: نظرية الشعر، تاريخ وعلم الحضارات، تاريخ وعلم الأديان، تاريخ الفن، وقد حققت إنجازات متواضعة فيها. ففي نظرية الشعر صدر لي العقل الشعري بجزأين، وفي تاريخ وعلم الحضارات صدر لي خمسة كتب؛ منها عن حضارات وادي الرافدين مثل «متون سومر» و«بخور الآلهة»، وفي تاريخ وعلم الأديان لي كتب كثيرة ربما فاق عددها العشرين، وفيها عن علم الأديان والميثولوجيا وتاريخ الأديان، وفي تاريخ الفن تصدر لي الآن سلسلة كتب عنه.
هذه الحقول يسير بعضها في موازاة بعض، وقد أردت من خلالها تتبع نقلات الروح في الشعر والدين والحضارة والفنون ووادي الرافدين، زمانيًا ومكانيًّا هو المسرح الأول لهذه الروح ونقلاتها. أريد أن أكشف طبيعة التجربة الروحية والتجربة الجمالية (الشعر والفن) وأن أكتشف أعماق الإنسان (حبه وخوفه وحيلته وصراعه ومخفياته ) وكل هذه مناجم كبرى تفيد قارئها وتنفع تجربتي الإبداعية.
حضارات وادي الرافدين مهملة من قبل المختصين العراقيين، وفيها حاجة إلى طواقم من العلماء العراقيين للبحث فيها وكشف كنوزها، وقد نذرت حياتي لها، وحاولت بعدتي المتواضعة وتحصيلي العلمي والبحثي أن أقدم عنها بعض الجوانب وأتمنى أن أكون قد نجحت.
■ كتبت للمسرح كثيراً، وكانت نصوصك على الدوام تفوح منها رائحة أسلافنا السومريين وغيرهم، كيف ترى أزمة النصّ التي يعيشها المسرح العراقي و يتعكز عليها أغلب مسرحيينا عند سؤالهم عن جدوى إعدادهم نصوصاً أجنبية؟
- أنا سعيد لأن تجربتي في المسرح أصبحت صنو تجربتي في الشعر وسارت معها الآن بالتوازي، وقد استلهمت في بعضها الماضي الرافديني، لكني، على العموم، أحاول أن أقترب من الكتابة الحديثة للمسرح في تياراته المعاصرة (ما بعد الحداثة بشكل خاص)، ومن خلال تجربتي كمؤلف مسرحي، وجدت فعلاً أن هناك أزمة نصّ عراقي في المسرح، فالأدباء عازفون عن الكتابة للمسرح، وإنْ كتبوا فإنهم يكتبون نصوصًا أدبية لا مسرحية، أي انها لا تصلح لأن تكون مسرحًا. الكتابة للمسرح ليست سهلة أبدًا، لأن مهمة البناء الدرامي المقنع ليست سهلةً، وتأليف حبكة حكائية مهمة أصعب، وإدارة الحوار، ولغة المسرح المختلفة عن لغة الحياة اليومية، الخ... كل هذه الأمور جعلت الذين يكتبون للمسرح قلـّة قليلة، لكني يقينًا لا أرى في اللجوء إلى النصوص الأجنبية حلاً، فمن المفروض أن تكون لنا مكتبة نصوص عراقية مسرحية زاخرة، والحقيقة أن مكتبتنا هذه الآن فقيرة جداً.
■ كيف يمكنك أن تصف لنا ما يمكن أن تكون عليه شخصية الثقافة العراقية المعاصرة وهي تعيش في داخلها صراعات شتى وفي خارجها تطورات شعوب وأمم فتيّة وجديدة تهددها بالتهميش وربما الذوبان؟
- يمكن للثقافة العراقية أن تتشكل من ثلاثة ينابيع كبرى وهي ( الرافدِيّة، والإسلامية، والمعاصرة )، فالثقافة الرافدية تعطي الإطار أو الشكل، والثقافة الإسلامية تعطي الجوهر، والثقافة المعاصرة تعطي الصياغة العملية لهذه الثقافة وتكوّن متنها الرئيس. أنا أعتقد أن فينا حاجة إلى مفكرين كبار يسعون إلى صياغة شخصية الثقافة العراقية، ويكونون نسيجها، فمادتها الخام موجودة وماتحتاج إليه هو التركيب والصياغة.
أتمنى من كل قلبي أن ينصرف الكتاب الحقيقيون عن الصحافة والإنترنت والمقالات السريعة ويسعوا الى تأسيس مشاريعهم الحقيقية.