التسميات

الأحد، 2 سبتمبر 2012

الأسطورة الشخصية



الأسطورة الشخصية

د.خزعل الماجدي

لم يمنع التعريف العلمي الدقيق لمصطلح (أسطورة) التداول الإنشائي لهذا المصطلح ولن يمنعه، حيث تطلق هذه الكلمة على كل ما هو عظيم في حقله، كأن نقول أسطورة كرة القدم أو أسطورة الأزياء.. إلخ، وفي هذا خرق دائم لمعناها الاصطلاحي.
مصطلح الأسطورة في أبسط تعريف له هو (حكاية إله) وهذا الإله يرتبط بعالم الأسطورة القديم الذي ارتبط بالأديان القديمة بشكل خاص، وأصبح منفـّـراً عندما نستعمله في الأديان الوسيطة باعتباره مصطلحاً موصوماً بالوهم والخرافة.. وهذا غير صحيح بطبيعة الحال.



المقدّس هو نواة الأسطورة بمعناها القديم المعروف. وليس هناك نواة لمعناها المعاصر الإنشائي الاستهلاكي المتداول باعتباط.
الأسطورة  نضح عام  تنتجها شعوب على مدى أجيال متعاقبة وينحتها ويكتبها أفرادٌ مجهولون وتتحول إلى قوة روحية هائلة لأنها المتن السردي في كل  دين ذلك المرتبط بالخالق أو بالكائنات الغيبية المقدسة (الإيجابية كالآلهة والملائكة والسلبية كآلهة الشر والموت والمرض وشياطينها ). ولذلك لا يمكن لأي دين أن يخلو من الأسطورة بمعناها المقدس القديم.
لكن الأساطير لم تبق في صناديقها الإلهية المقفلة  بل تسربت إلى كل شيء في تلك الأديان فأصبحت سير الأنبياء والأولياء والقديسين والأضرحة والمقامات ملوثةً بالأسطورة، فالتهويل والغيب والمعجزات تغلف كلّ ما كان داخل ذلك النظام الديني، فقد تأسطرت الأجزاء الصغيرة المكونة لذلك الدين، وأصبحت الأسطورة في كل المسمات.
ولعلنا لا نحيد عن الصواب إذا قلنا أن الأسطورة تسربت إلى العالم الدنيوي (المدنّس) واصبحت مثل شحنة الكهرباء تضيء من تمسه من السياسيين والزعماء والأبطال والفنانين والقادة والنجوم في حقولهم.. لتتوالى بعد ذلك أنظمة الإعجاز والغيب والغرابة والغموض على من مسّتهم.
أصبح هذا كله اليوم مثار بحث من قبل علماء الاجتماع والانثربولوجيا وأصبح بإمكاننا فرز تلك الشحنات التي كهربت أو أسطرت من مسّته.
والحقيقة أن معضلة العلوم الإنسانية الحديثة أصبحت في فك هالات الأسطورة عن الواقع العياني الذي نعرفه لكي نعيد الأمور إلى نصابها ونتحدث بدقة عمّا حصل.
وحده الأدب كان ملجأ ً آمناً للأسطورة لأنه يتعامل معها سلفاً كواحدة من ألعابه، يعرفها ويدرك أن تهويلها يقع في باب الخيال الجميل الذي يُكسب الأدب طراوته، وينزع عنها الفتيل المقدس الذي تشعله الأديان وتتدفأ به وتعتقد به .
تأتي معالجتنا الحالية لـ (الأسطورة الشخصية) في شقــّين أساسيين؛ الأول هو الجانب الحياتي لها حيث تشكّل الأسطورة الشخصية مسعىً إنسانياً معقولاً يعمل على صياغة وانتاج حياة الفرد بصيغةٍ تسبغ معنى وجودياً خاصاً على حياته وتعمل على إعطائه مبرراً لتوازنه وعيشه في هذا العالم. أما الشق الثاني فهو الجانب الأدبي المكتوب حيث يسعى هذا الإنسان الذي وجد وعاش أسطورته الشخصية إلى تدوينها الإبداعي لتكون شاهداً على قدرته في إعطاء درسٍ جذّابٍ للآخرين ونموذج مقترح لهم في التدوين المبدع.
الأسطورة الشخصية في الحياة:
لا يملك كلّ إنسان أسطورته الشخصية، فهي لا تتكون لمجرد أن لكل إنسان سيرةً معينة أو أنه حقق هدفه في الحياة. فالأسطورة الشخصية تتملك قلّة من الناس الذين يسعون إلى صناعتها وتكوينها وبنائها حتى يحققونها كاملةً ويناغمون معنى وجودهم الشخصي مع معنى وجود العالم كله، إنها وعيٌّ وصناعة وهندسة وهيكلة وليس مجرد تحقيق هدف ما.. وهي تناغم محسوب بين وجوده الشخصي والوجود من حوله .
كثيرون يحلمون بصناعة اسطورتهم الشخصية لكنهم يتراجعون عنها ويكتفون بنيل ما يرمون إليه في الحياة من جاه وثروة وعمل وشهرة وحب ، ولا تعود الأسطورة الشخصية موجودة بل تحلّ محلها الأمور الشخصية مثل الرغبات والأهداف والمقاصد والغايات الشخصية، أما الأسطورة الشخصية فلا أثر لها لعدم تحقق حيّز هذه الأسطورة وعلاماتها وهيكلها في الجهد الذي سعى فيه ذلك الإنسان.. وبكلمة أدق غاب المعنى الباطني العميق الذي يوصل أعماق ذلك الإنسان بأعماق العالم والوجود والكون.. لم تعد هناك كينونة تتحرك بتوافق وجودي واعٍ بل هي كينونة غفل همّها الإمتلاء.
الأسطورة الشخصية التي ترتبط بالمقدّس تدخل في النطاق الديني وتتحقق كجزء من تمظهرت المقدّس في ذلك الدين، وهي بذلك ترتبط بالأسطورة (العامة والجمعية) بشكل من الأشكال وتذوب خصوصيتها في الإطار العام. وكذلك الأسطورة الشخصية التي ترتبط بالسياسة أو بالبطولة حيث تتشكل ضمن مسعى الجماعة نحو تحقيق أحلام أفرادها. أما الأسطورة الشخصية التي ترتبط بالفن والأدب والجمال عموماً فإنها تحافظ على قدر كبير من خصوصيتها ونسيجها الخاص، وتتشكل وفق أداء فردي أولاً قد ينفتح ضمن مناخات فنية كبرى، لكنها عموماً تسعى نحو حريتها هي وتكوينها هي.
الأسطورة الشخصية التي ترتبط بالعلم هي الأخرى تتضمن قدرات التفوق وتحقق النسيج الخاص داخل الفضاء العام. أما الأسطورة الشخصية العادية فهي مشروطة بالوعي بها والسعي لتشكيلها، أما إذا كانت من نسج تداعي الأحداث فقط فلا تسمى اسطورة شخصية.
مركز ومحيط الأسطورة الشخصية:
نلمح في التحديدات السابقة أن للأسطورة الشخصية مركزاً وجوهراً خاصاً يختلف تماماً عن الأسطورة (العامة) التي يشكّل المقدس أو الإله جوهرها. ففي الأسطورة الشخصية هناك جوهر آخر يعني الذات الإنسانية وليس الذات الإلهية. أي أن الإنسان هو مركز الأسطورة الشخصية وليس الإله أو الله. وهذا يعني تعارضاً نوعياً كبيراً بين الأسطورة الدينية والأسطورة الشخصية.
السؤال الهام هنا: أي نوع من البشر (الإنسان) يمكن أن يكون مركز الأسطورة الشخصية؟ وهل كل إنسان يصلح لأن يكون مركز هذه الأسطورة إن وجدت؟
وجوابنا إن، الإنسان المميز المتفوق.. الذي يريد أن يحقق هدفاً ما ويسعى بوعي لتحقيقه وهو لا يحققه بفعل المسرى التراتبي للأحداث الزمنية بل بفعل الأرادة والقوة والصراع مع العوائق التي تحول دون تحقيق هذا الهدف. أي أن هنا دراما تشكل أسطورته الشخصية يصنعها ويخوضها هو بوعي كامل وإرادة قوية.
الهدف والتمييز و الصراع مع الصعاب  إذن هو جوهر الأسطورة الشخصية، ويشد الهدف كل تفاصيل الأسطورة الشخصية بقوة ويجعلها متماسكة ويصنع منها الدراما الخفية لمسى ذلك الإنسان.
أما محيط الأسطورة الشخصية فهو عبارة عن الإشارات والعلامات والشفرات( التي يسميها جيرار جينت بطوبولوجيا الأسطورة وهي طبقاتها المكونة من الرموز والإشارات )  التي يصادفها صانع الأسطورة في طريق حياته والتي يفكّ معاني بعضها ويستعملها في صناعة أسطورته وقد يفشل في ذلك مراراً لكنه يبقى مفتوح العينين لالتقاط مثل هذه الإشارات التي نسميها أحياناً الصدف أو الأقدار..إلخ ، قد يلجأ صانع الأسطورة الشخصية إلى صنع إشاراته وعلاماته الخاصة به والتي يتفرد بها. وقد يلتقط إشارات وعلامات عامة أو غير معروفة ليعزز بها صناعة أسطورته، إذ لا بد من كثافة روحية ما.. لا بد من اركيتايبات (نماذج بدئية) يعثر عليها أو يلتقطها صانع الأسطورة لكي يكثف جوهر أسطورته بمداراتها ويضفي عليها نوعاً من التوازن والانسجام.
إن مسرى العلامات والرموز والإشارات والشفرات ذلك الذي يتدفق في حياتنا منذ طفولتنا حتى شيخوختنا ينطوي على الكثير من المعاني الخفية التي يطلقها العالم الضمني (الجواني، العاطفي) لنا وللعالم ويحاول توجيه خطانا نحو تلك الأهداف، لكننا قد لا نشعر بها أو لا نعير لها اهتماما، وربما لفتت انتباهنا في مرحلة ما من أعمارنا وقد ننتبه ونتمسك بها ثم ندرك أهميتها في تحقيق أهدافنا فضلاً عن أنها تسبغ على حياتنا المعنى العميق وتعطينا شعوراً روحاناياً خاصاً يعمّق البعد الخفيّ لأسطورتنا الشخصية.

مراحل الأسطورة الشخصية
قد تتحقق الأسطورة في وقت ما من حياة الإنسان، لكن بداياتها تمتد عميقة باتجاه الطفولة ونهاياتها تذهب وارفةً مثمرة نحو آخر العمر، وعلى هذا الأساس يشغل تاريخ الأسطورة الشخصية حياة الإنسان كلّها.
وسنقسم إفتراضياً، مراحل الأسطورة الشخصية إلى أربع مراحل كبرى هي:
1. مرحلة الطفولة (الحلم): تنشط الغرائز والحواس في هذه المرحلة وتفرز مداليلها الرمزية والعلاماتية والإيقونية في حياة الطفل، وتدول هذه المداليل حول (نواة الهدف) الذي ستنعقد الأسطورة الشخصية حوله. وسرعان ما تتحول دائرة الرموز والعلامات إلى دائرة حلم تغوص في وعي ولا وعي الطفل لكنها تبدو دائماً قابلةً للإنفراط والتشظي لأن (نواة الهدف) لم تتضح بعد. ويمكننا وفقاً لتتبع تاريخ الرموز والعلامات المرافقة لمراحل الأسطورة الشخصية القول بأن هناك مراحل لتاريخ الرموز والعلامات حسب مراحل الأسطورة الشخصية، وهذا يعني أن هناك أربع مراحل لتاريخ الرموز والعلامات ترافق مراحل الحياة وهذه المراحل هي (النماذج البدئية، رموز البطولة، رموز الخراب، رموز التوازن).
وعلى ذلك تكون رموز النماذج البدئية هي الحاضرة في مرحلة الطفولة والحلم حيث ترقد هذه النماذج البدئية في مخازن اللاوعي الجمعي وهي الموروث اللاواعي للجماعة التي يكتسبها الفرد وراثياً من سلالته، فإذا تحركت هذه النماذج البدئية (الأركيتايب) من مكانها القصيّ وظهر بعضها في وعي وحياة الطفل أو الصبي فإنها قد تشكل المادة النيئة الأولى للهدف وخصوصاً إذا أبدى ذلك الطفل أو الصبي استعداداً للتفاعل معها ومسكها بدراية أو بدون دراية.
تشكل بعض هذه الأركيتايب نواة الهدف وتضاف لها الغرائز والحواس الأكثر نشاطاً في الطفل ثم يطوّر الحلم أو الأحلام هذه النواة ويجعلها أساس أو نواة الأسطورة الشخصية.وتشكل الأم ورموزها الأرضية والترابية مادةً لهذه المرحلة، وتسبطنها  المادة النشكونية بصيغها الشعبية والعامة .
2. مرحلة الشباب (البطولة): يسعى صانع أسطورته الشخصية إلى صناعة المادة المناسبة لتحقيق هذه الأسطورة بصنع الخطوط والأنسجة التي تكسي نواة الهدف. وتظهر الأنسجة الأولى للهدف طرية غير مميزة لكنها، مع مرور الوقت، تتحول إلى أنسجة صلبة ومميزة.
الرموز التي تلعب دوراً هاماً في صناعة هذا النسيج هي رموز البطولة والشمس والصيف والقوة والنار، حيث يسعى صانع الأسطورة بقوة نحو تحقيق أسطورته، ويحاول أن يعيد تفسير وترتيب هذه الرموز في حياته اليومية.
قد تتحقق الأسطورة في هذه المرحلة وقد تنفرط وتضيع إذا لم يحسن البطل التحكم بها، وكثيرون من الأبطال انتهوا في هذه المرحلة وارتفع مجدهم بسبب التراجيديا القاسية التي أنهت حياتهم لكنهم كانوا قد صنعوا أسطورتهه أو أوصلوها إلى الذروة.
3. مرحلة الوهن (الخراب): بعد اكتمال الحصول على الأسطورة الشخصية تظهر علامات الذبول والضعف فيهان حيث تبدو ناقصة أو مثوبة وتحتاج إلى نوع من المراجعة، ويسعى صاحب الأسطورة لإنقاذها من الوهن والخراب والموت، وقد ينجح في ذلك وقد لا ينجح فتضيع أسطورته.وتسيطر على الشخص في هذه المرحلة هواجس البقاء والبحث عن مايعزز هذا البقاء والذكر الحميد له  بين الناس ، ولذلك فهو يكافح  وسط رموز الخراب لينقذ حياته من السقوط وليرتفع إلى نوع من الخلود الجزئي.
4. مرحلة الحكمة (التوازن): حين ينجح صانع الأسطورة في إنقاذ أسطورته من السقوط والتفتت والضياع ويصل بها إلى ساحل النجاة يمكنه، عندها، الاطمئنان إلى أن أسطورته أصبحت في اقصى تكوينها البديع وأنها بدأت تحمل إيقاعاً متناغماً مع إيقاع العالم والكون وأنه وصل إلى التوازن المطلوب، حيث تسود رموز التوازن والحكمة والاستقرار هذه المرحلة، ويكون أمام أسطورة شخصية مكتملة التكوين.
وسائل تحقيق الأسطورة الشخصية
1. قلبك أسطورتك: الأسطورة الشخصية تبدأ من القلب، وهذا يعني أن يتبع الإنسان قلبه وهواه وهو يشرع في بناء أسطورته ثم يكسبها المنطق والعقل والحكمة، لأن الجذور القلبية للأسطورة ستظل تديمها بالنبض القوي مدى الحياة وسمتنحها الدم والغذاء حيث هوى ورغبة الإنسان أساسها.
لا يمكن للأسطورة الشخصية أن تبدأ من التفكير العميق والتحوط والحسابات الخاسرة والرابحة، بل هي تبدأ من هوى القلب ومن ميول الشخص ورغباته ومواهبه وما يحب. ولذلك يجب أن نقول في بداية طريق تحقيق الأسطورة الشخصية (إتبع قلبك).
2. تحديد الهدف: لا يمكن للأسطورة الشخصية أن تنمو وتتحقق دون وجود هدفٍ يجذبها إليه ويجمع عناصرها، فالهدف هو نواة الأسطورة التي تجمع حولها كل خلايا وأنسجة وأعضاء هذه الأسطورة. قد يكون الهدف بعيداً عنّا وقد نحتاج إلى جهودٍ وطرقٍ كثيرة للوصول إليه.. وقد يكون الهدف قريباً منّا ولكننا نهمله ونضطر إلى حفر طرق وأنفاق طويلة إليه قد تعيدنا له. وهكذا يكون الهدف مثل نقطة قريبة أو مثل سراب، والمهم دائماً هو أن نظل محدقين به.
وإذا وضعنا هدفنا في قلبنا وعقلنا وتمسكنا به بقوةٍ فستتيسر أمور كثيرة حولنا وتتسخر لمساعدتنا كي نصل إليه. التصميم على الهدف يعني جذب قوى العالم لصالحه والتخلي عنه يعني ضياعه.
3. عدم الخوف من الفشل والمغامرة يجعلان الهدف قريباً منا ويسخّران النجاح، وإن كان عصياً، لكي يكون جزءاً منهما.
عدم الخوف يستدرج النجاح شيئاً فشيئاً. والفشل سيكون عوناً لنا على تجاوز الأخطاء وأحياناً لا بد منه لكي نعرف فخاخ الأفق القادم.
4. الرموز والإشارات والعلامات التي تحدثنا عنها في مراحل صناعة الأسطورة الشخصية تظهر في كل مرحلة وهي تحمل معنىً ما وتكون إشارة لشيء ما في أسطورتنا فعلينا قراءة هذه الرموز بعناية والانتباه لها وإدراك مغزى وجودها في نيج كامل من الرموز الدالة على هيكل أسطورتنا.
إهمال هذه الإشارات والاستخفاف بها وعدم تفسيرها بشكل صحيح سيضيّع الطريق الذي يجب أن نسلكه من أجل صناعة الأسطورة الشخصية.
5. بداية المستلزمات والمهارات التي تحتاجها الأسطورة الشخصية لنا إذ لا يجوز الاكتفاء بالإستعداد الفطري أو التعليم البسيط بل يجب الذهاب إلى أبعد من ذلك واتقان ما يلزمنا لتحقيق أسطورتنا وقد تكون هذه المستلزمات خاصة بإنضاج فطرتنا وتطويرها أو هي مستلزمات مكتسبة تعمل على صنع فضاء مناسب لنمو فطرتنا وموهبنا.
6. اقترابنا من الهدف لا يعني مطلقاً وصولنا إليه، فقد يكون قريباً جداً منا لكننا لا نعثر عليه، وقد نضطر إلى الدوران حوله أو بعيداً عنه لمرات طويلة دون أن نحقق شيئاً، ولذلك يصبح من الأهمية بمكان الثبات على التمسك بتحقيقه وعدم اليأس.
7. الوصول إلى الهدف لا يعني الحصول عليه بل ربما يعني إزدياد فرص ضياعه نهائياً. ولذلك يجب الحذر من هذه اللحظة والتماسك إلى النهاية، هناك ما يمكن أن نطلق عليه بـ(وهم الوصول) الذي هو وصول كاذب غايته إبعادنا عن الهدف وهو آخر تحديات الوصول إلى الهدف التي يفترض الاحتراس منها وهو أيضاً ما يمكن أن نسميه بـ(اللحظة العدمية) التي تجعلنا نضيّع الهدف والأسطورة الشخصية باعتباط غفل.. ودون قصدٍ منا.
8. تحقق الأسطورة الشخصية والوصول النهائي إلى الهدف يعني الولادة الثانية للشخص بعد الولادة البايلوجية الأولى حيث يعاد تكوينه وإصلاح بنائه وهو يعانق أسطورته التي تحققت، ولا شك أن هذا سيكون مبعث نشوة هائلة قد تدوم لزمن طويل. والمهم دائماً هو الحفاظ على الأسطورة الشخصية والاعناء بها.
9. يصيب الوهن الأسطورة الشخصية وتظهر بعد زمن، عيوبها ونواقصها، ويستوجب هذا منّا استعداداً دائماً لإعادة صياغتها وتكوينها من جديد.. أي لصيانتها وإصلاح ما عطل منها وهو ما يستوجب منا عقلاً مفتوحاً قادراً على تقبّل الأخطاء والاستعداد لإصلاحها، مع انفتاح واعٍ على ما تفرزه الحياة من أمور جديدة في حقل أسطورتنا الشخضية.
10. إعادة صياغة الأسطورة الشخصية لمرةٍ أو لمراتٍ عديدة يوصلنا إلى الانسجام والتناغم مع العالم والكون ومد أنغام هذا الانسجام بين الأسطورة الشخصية وما يحيط بنا، والشعور بالتوازن والحكمة والاستقرار.

الأنواع الكبرى للأسطورة الشخصية
1. الحب: هو الأسطورة الشخصية الأعظم والأنبل والأكثر شيوعاً بين الناس، وليس مجرد الحب يمكن أن يكون أسطورة شخصية بل أن تركيب وتفصيل هذه الأسطورة الشخصية وصناعتها ورفعها لمقامٍ عالٍ من الإحساس هو ما يشكلها ويعطيها عمقاً ومركزاً راسخاً.
الحب في أساسه ميلٌ فطري عند جميع الناس لكننا يمكن أن نجعل من هذا الميل الفطري أساساً لأسطورة شخصية مميزة عن طريق التضحية وإخصاب الذات وسموّ الأهداف.
تتضح أهمية (الحب) الاستثنائية كأسطورة شخصية في كون الحب يمثل أكثر العواطف الإيجابية وضوحاً فهو عاطفة تتجه نحو الآخر وتتعامل معه بإيجابية ومشاركة (وسيتضح لنا أن هذا عكس الدين تماماً). فالتعامل الإيجابي يضمن امتلاء وإرواء الذات بما يشبعها، وهو تضحية لأنه يستدعي إفراغ الذات في الآخر وإعطائها له. وبين حركتي الامتلاء والإفراغ يكون الحب ولا يكون بواحدةٍ منهما.
يستطيع صانع الأسطورة أن يجعل من الحب استثنائياً (سواء كان حباً واحداً أو متعددا) وإذا أجاد نقل مستويات هذا الحب إلى طرقٍ أكثر رقيّاً في الأخذ والعطاء تكوّنت الأسطورة الشخصية بملامح مميزة. أما إذا بقي الحب ساكناً عادياً خاملاً روتينياً مالت الأسطورة الشخصية إلى السكون والتفكك والذوبان وبقي الحب بشكله هذا دون أسطورة. ولذلك نرى أن صناعة أسطورة الحب مرحلة لاحقة مهمة على مرحلة العثور عليه ونسج بدايته.
2. الدين: لا يكون الدين أسطورة شخصية إلاّ إذا انفرد الشخص بتكوين نظامه الروحي الديني الخاص، أما إذا اندرجت أسطورته الشخصية في الأسطورة الدينية فسيكون ذلك ضمن النظام الديني الذي ينتسب له الشخص. وستتحق الأسطورة الشخصية الدينية متى ما استطاع الفرد أن يكسب أسطورته الدينية بعداً شخصياً.
الدين بمجمله عاطفة سلبية قوامها الحب والخوف، حيث يشعر المتدين بالخوف مما يحيط به ومن العالم الغيبي الذي يأسره ويضطر إلى الحب بفعل الخوف ولذلك يتسرب العنف المعتقدي له ويتحول الحب إلى طاقة سلبية إزاء الآخرين الذين لا يشاركونه نفس المعتقد.
هناك الكثيرون من الذين بنوا أسطورتهم الشخصية داخل دينٍ معين بحيث أثروا في ذلك الدين فالأنبياء أصحاب أسطورة شخصية في أديانهم وكذلك الأولياء والقديسون والحواريون والأئمة والخلفاء وغيرهم. فهم ينحتون نظاماً خاصاً بهم داخل أديانهم تبرر لهم حضور فاعليتهم.
يحاول رجال الدين، عموماً، بناء أساطيرهم الشخصية داخل أديانهم لكن هذه الأساطير قد تكون سلبية في أثرها العام وقد تكون إيجابية في أحيان قليلة.
3. العلم: يمنح العلم إمكانية كبيرة للعلماء أن يبنوا أساطيرهم الشخصية فيه وغالباً ما تكون أساطيرهم إيجابية ونافعة، فهم فضلاً عن اكتشافاتهم العلمية يبنون نمطاً خاصاً من السير والأساطير التي ضمنت لهم تحقيق أهدافهم النافعة لهم وللآخرين.
4. الأدب: يمنح الأدب للأدباء مادة ثرية لبناء أسطورتهم الشخصية ويكسيها بعداً جمالياً وروحياً. ولعل الأدب هو الحقل الأوسع لبناء هذه الأسطورة الشخصية لأنها ترتبط بالتدوين الجمالي سواء كان شعراً أم سرداً أو دراما.. وبذلك تحقق الأسطورة الشخصية حضوراً على أرض الواقع وفي النصوص والكتابة.
6. الثروة أو الجاه أو السلطان: وهي أماكن خاصة لتحقيق الأسطورة الشخصية في شكلها النفعي المباشر الذي قد يكون مشوباً بالعسف أو العنف أو أذى الآخرين بسب الحيازة المباشرة لهذه القوى.
7. الفن والرياضة والسياسة: حقول ثرية بمادة الأسطورة الشخصية التي تحقق إشباعاً للذات وتفاعلاً مع الناس يمكن لأصحابها تحقيق أساطيرهم الشخصية بيسر بسب وفرة المادة الأولية لصناعة هذه الأسطورة.
تدوين الأسطورة الشخصية
قد يستطيع صانع الأسطورة الشخصية تدوينها وقد لا يستطيع وقد يدونها غيره، لكن تدوين الأسطوة الشخصية، بحد ذاته، عملٌ يقع في السياق الصحيح للأسطورة الشخصية. بمعنى أن القدرة على تدوين الأسطورة الشخصية من قبل صانعها هو عمل مكمّل لبناء هذه الأسطورة.
وهناك، اليوم، سبل كثيرة لتدوين هذه الأسطورة إما عن طريق كتابتها كنصٍّ أدبي أو عن طريق كتابتها كنص عادي أو عن طريق تحويلها إلى فيلم وثائقي، أو سينمائي أو عن طريق مسرحتها أو وضعها في أطر فنية أخرى، كالموسيقى والغناء والتشكيل وغير ذلك.
لكننا سنقتصر هنا على التدوين الفني المكتوب إما عن طريق السرد أو عن طريق الشعر.
التدوين السردي للأسطورة الشخصية: أنواع السرد الأدبي للأسطورة الشخصية مختلفة ويمكنها أن تحقق النموذج الأفضل لشكل الأسطورة الشخصية ويمكننا، بصورة عامة، وضع هذه الأنواع كما يلي:
1. السرد المباشر: الذي تتولاه السيرة بأنواعها (السيرة أو الترجمة الذاتية، اليوميات، المذكرات، الاعترافات، الأرشيف، السجل التاريخي، الاستذكارات). ولا شك أن الطريق الأفضل في تحقيق تدوين ناجح فيها هو المعالجة الأدبية لها من حيث الشكل والمضمون.
هناك أمثلة نموذجية على هذا النوع من السرد ظهر في مذكرات كازنتزاكي (الطريق إلى غريكو) وبابلو نيرودا (أشهد أني قد عشت) وأندريه مالرو (اللامذكرات أو المذكرات المضادة) وطه حسين (الأيام)..إلخ
2. السرد الفني: الذي تتولاه فنون السرد الأساسية كالقصة أو الرواية، حيث تتمتع الرواية بمرونة هائلة لسرد الأسطورة الشخصية.. فهي النوع الأكثر استجابة لتدوين الأسطورة الشخصية بسبب من إمكانية خلط الواقع بالخيال، وتحويل المسرح الداخلي للشخص إلى مسرح أسطوري روائي بامتياز في سعيه إلى هدفه. كما أنها قابلة لأن تكون رواية أسطورة شخصية غير تلك التي يكتبها الروائي عن نسه.. بل يمكن للروائي الحاذق التعبير عن أطياف أسطورته الشخصية عندما يتناول أسطورة شخصية أخرى حتى لو كانت افتراضية مثلما حصل مع رواية العطر لمؤلفها (بارتيك زوسكيند) ورواية الخيميائي بـ(باولو كويلو).
الرواية فن العصر الحقيقي الذي يُظهر معجزة النثر في الكتابة عن الأسطورة الشخصية وعن غيرها.
التدوين الشعري للأسطورة الشخصية: يمكن للأسطورة الشخصية في الأدب أن تُدوّن شعرياً بفضل تطور الشعر الحديث وقدرته على استيعابها وخصوصً في قصيدة النثر والنص المفتوح ورغم أن التجارب قليلة في هذا المجال، لكن الشعر الحديث يعطينا القدرة على بناء الأسطورة الشخصية للشاعر، حصراًن من خلال الشعر.
وبذلك يكون هذا النوع من الأساطير الشخصية حصرياً يخص بعض وليس كل الناس ممن انتبهوا لإمكانية تدوين  أسطورتهم الشخصية عن طريق الشعر.