التسميات

الخميس، 16 يونيو 2011

لنبكِ على ما جرى وإيانا نسيان ما أنتجته أرواحنا

 حوار مع الشاعر العراقي خزعل الماجدي


  لنبكِ على ما جرى وإيانا نسيان ما أنتجته أرواحنا 
الشعر كائن بدائي متوحش يمثل طهر الطبيعة وبكوريتها   
كلّ تفصيل في حياتي مضمّخ بالشعر  
احتضنت بقلبي كل الأديان وأحببتها دون تمييز أو تعصب . 

حاوره - هادي الحسيني / اوسلو 
  
المقدمة :
لم يعرف المشهد الثقافي العراقي برمته شاعراً مثابراً على مدى عقود طويلة  يحفر في أعماق الثقافة والتاريخ ويفتش بدقة متناهية عن كنوز الإبداع المتراكمة في تركة حضارة وادي الرافدين التي يمتد تاريخها إلى آلاف السنين مثل الشاعر العراقي الدكتور خزعل الماجدي المولود في مدينة كركوك عام 1951 فهو أبرز العلامات الشعرية في جيل السبعينات العراقي ، ذلك الجيل الذي اتخذ لنفسه كتابة مغايرة ميزته عن جيل الستينات وجيل الرواد . وفي أتون الصراع السياسي والثقافي والاجتماعي الذي كان يلهب الساحة العراقية استطاع خزعل الماجدي مع شعراء جيله أن يؤسس لنصوص شعرية جديدة جعلت من المؤسسة الثقافية حينذاك أن تحاربها . لكن بمرور الأيام فرضت تلك النصوص جرأتها وآلياتها على الساحة الثقافية وهذا ما جعل من الأجيال التي سبقتهم أن تحذو حذوهم لتنتقل الشعرية العراقية من مشهد قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر وصولاً إلى كتابة النص المفتوح الذي قدمه الماجدي عن طريق مجموعته (حية ودرج ) .  فهو الشاعر الذي أنتج ما يقارب ثلاث مجلدات شعرية تناولت مراحل تطور الشعر العراقي منذ بداية عقد السبعينات وحتى يومنا هذا، وقد أصدر عشرات الكتب في حقل التاريخ والميثولوجيا والأديان القديمة ، كما ورفد المكتبة الثقافية بالكثير من الكتب الفكرية والثقافية وأبدع في المسرح ولا يزال خزعل الماجدي كثير العطاء في مشغله الشعري والفكري والتاريخي .. إنه منجم مهم من مناجم الثقافة العراقية والعربية . وخلال رحلته الأدبية الطويلة التي  ابتدأت بمجموعته الشعرية الأولى ( يقظة دلمون ) الصادرة عام 1980 تمكن الماجدي من لفت الأنظار إليه ليس على مستوى المشهد الشعري العراقي فحسب إنما على المستوى العربي أيضاً ، ومن ثم توالت مجاميعه الشعرية التي يتنقل بواسطتها في استكشافاته الجديدة وأطاريحه المغايرة انطلاقاً من لغة شعرية صافية ، وهذا ما أذهل النقاد ومتذوقي الشعر . وتوسع كثيراً في أبحاثه وأطاريحه لينال شهادة الدكتوراه في التاريخ القديم من معهد التاريخ العربي للدراسات العليا عام 1996 وشهادة دكتوراه دولة برتبة ( عالم باحث ) في فلسفة الديانات القديمة من جامعة الحضارة الإسلامية المفتوحة في بيروت لعام 2008 ، ولعل الشيء الذي يميز الشاعر خزعل الماجدي عن مجايليه من الشعراء انه اخلص للشعر وكرس جل جهده له وبطريقة المثابر الذي لا يتوقف عطاؤه على الرغم من كدمات الزمان التي لحقت بالبلاد بسبب الحروب المستمرة والحصار وما تلاها، إنه الشعلة المضيئة في تاريخ الشعر العراقي في أحلك وأصعب الأيام . وسأترك للقارئ عن طريق هذا الحوار أن يتعرف بعمق وبدقة متناهية  إلى هذا الشاعر المهم الذي أبدع كل الإبداع في توصيله للمفردة والصورة الشعرية التي ظلت لسنوات راكدة لا تتحرك حتى نزع عنها لجام الركود  لينطلق بها إلى فضاءات أوسع وأرحب محتفظاً بجماليتها وسرعة وصولها إلى قلب القارئ . الماجدي شاعر من الطراز الأول تقف له الثقافة العربية برمتها باحترام لمنجزه الكبير الذي سيبقى واحداً من المراجع المهمة في الشعر والتاريخ والفكر والميثولوجيا . وبعد أن استقر به المطاف أخيراً في احدى الدول الأوروبية تمكنت من إجراء هذا الحوار معه والذي يتحدث فيه وبثقة عالية عن حال الشعر العراقي والتطورات التي واكبت القصيدة في العراق وعن أبحاثه ودراساته في مشغله الثقافي الواسع وقد يكون هذا الحوار وثيقة مهمة بالنسبة للأجيال الشعرية الجديدة واللاحقة التي عليها أن تتعرف إلى  شعراء اخطر المراحل في تاريخ العراق ...
  
*  تنتج الشعرية العراقية في كل جيل من الأجيال منذ الرواد وحتى جيل التسعينات مجموعة كبيرة من الشعراء الذين يتصدرون المشهد الشعري ، وقد برز جيل السبعينات في العراق بانطلاقته الأولى ب 73 شاعراً ، لكنهم سرعان ما تواروا عن الأنظار ، ولم تبق إلا مجموعة قليلة أخلصت للشعر وأمسكت بجمراته  وأضافت أليه الكثير ، كيف تفسرون ظاهرة الاختفاء هذه بوصفكم أحد أبناء هذا الجيل ؟ وهل وقع الكثير منهم في فخاخ الأيديولوجيات ؟
- تشخيصك للظاهرة صحيح ولكنها لا تخص جيل السبعينات الشعري في العراق بل هي تخصّ كلّ جيل في كل مكان وزمان . ولنأخذ العراق مثلاً نوعياً لذلك . لقد شهدت الخمسينات ثم الستينات عدداً كبيراً من الشعراء الجدد ضمنها ، لكنهم سرعان ما تواروا وبقيت نخبة قليلة تواصل المسير وينطبق هذا على السبعينات والثمانينات والتسعينات بنفس الكيفية . وأسباب هذه الظاهرة كثيرة لعلّ أهمها أن هذا الكثير من الذين يظهرون وكأنهم شعراء ذلك العقد هم ، في الحقيقة ، طارئون على الشعر أصلاً منهم بلا مواهب حقيقية وربما كان الشعر وسيلة ظهور في الوسط الثقافي ليس غير ، ثم أن قدرتهم على المطاولة والإتيان بشعر جديد من الضعف بحيث لا تسمح لهم بالاستمرار ، وهناك إغراءات أو فخاخ الأيديولوجيا والوظيفة والمال والحياة الاجتماعية وغيرها الكثير .الشعر يحتاج إلى من ينذر له كل حياته باعتباره نوعاً من الخلاص الروحي والجمالي لا باعتباره وسيلة ظهور أدبي أو اجتماعي . وهذا لا يستطيع عليه إلا الندرة القليلة جداً من الناس . حمل الشعر ثقيل على الجسد خفيف على الروح ، فمن ذلك الذي يستطيع أن يعبر بالشعر بحور الحياة المتلاطمة ، ربما تمّر عقود ولا نجد أحداً ..
  
* كيف إذاً تفسر ظهور أجيال عقدية في العراق ؟
- هذه أجيال أدبية افرزتها تغيرات اجتماعية وسياسية بدلّت المناخ العام فتبدلت النفوس والأهواء . ومن بين هؤلاء الأدباء الجدد قد ينتبه شاعرٌواحد أو اثنان الى خطورة الشعر فيسلك الدرب فيه وقد يخونه الطريق ، لكن الشاعر الحقيقي وحده هو الذي يصل الى آخر الطريق مثل نبيّ أو عّراف . ظهور الأجيال الأدبية يخضع لظروف سياسية واجتماعية وظهور شاعر فريد يخضع لمخاض روحي خاص . الأمر يتعلق هنا بالكائن الفرد ، أيستطيع أن ينتبه لخطورة وأهمية الشعر . هذا هو التحدي !! الشعر ليس أدباً بل هو عدوّ الأدب . الشعر شرسٌ والأدب مدجّن ولذلك يصعب على الجميع الذهاب في هذا الطريق الصعب ..لكن جميع الشعراء مرتاحون لانهم ادباء فكيف سننتظر ظهور شاعر حقيقي؟

* ماذا تعني بذلك ؟ أنت تقوّض بديهية كون الشعر أدباً ؟
- نعم للاسف ، الشعر شيء والادب شيء آخر تماماً ، الشعر كائن بدائي متوحش الى حدّ كبير يبدو وكأنه ولد للتو وهو يمثل طهر الطبيعة وبكوريتها لانه متمرد على الأعراف ولانه محبّ للحرية في اقصى اشكالها . الأدب يختلف عن ذلك تماماً فهو نتاج المجتمع أولاً ثم نتاج الثقافة التي طوّرها هذا المجتمع وأشرفت على تهذيبه ، إنه وليد النظام والخبرة ولذلك تدخل الصناعة فيه كعامل أساس بينما ينفر الشعر من الصناعة بسبب بكوريته . الادبُ ، عادة ، متصالح مع الثقافة والمجتمع ، بينما الشعر مضادٌ للثقافة والمجتمع لأنه يهدد أنظمتها . وعندما نبتكرُ شعراً يتآلف مع الثقافة والمجتمع والأدب فإن هذا الشعر يكون عادياً لا قوة فيه ولا يعود مشحوناً بالروح الشرسة للشعر بل هو شعر تقليدي .. إنه شعر أدبي إن صح التعبير ..

* لنعد الى تجربتكم في العراق ، عام 1980 أصدر السبعينيون ثلاث مجموعات شعرية مهمة وهي دخان المنزل لسلام كاظم ووردة البحر لكمال سبتي ويقظة دلمون لخزعل الماجدي ، وهذه المجاميع الثلاث أستطاعت تغيير الذائقة الشعرية العراقية وكانت مؤشراً لكتابة مغايرة ، خاصة انها تتحدث عن المعرفة والجمال والانسان وتحولات الطبيعة والاحلام انطلاقاً من رموز ودلالات خاصة بها ، ألا تعتقد أن أصدار هذه المجاميع في تلك السنة كان تحدياً للسلطة خاصة وأن الوضع السياسي في العراق كان مرتبكاً وطبول الحرب مع ايران قد قرعت ؟
- أنا لا انظر للامر بهذا الشكل . فقد كان ظهور هذه المجاميع نتيجة طبيعية لاعلان ظهور جيل جديد في بداية السبعينات ، وقد استطاع بعضنا أن يطور أدواته ويظهر بشكل لائق في نهاية العقد . لكن ثورة جيل السبعينات الحقيقية في الشعر ظهرت اثناء عقد الثمانينات بشكل خاص . ففي هذا العقد ظهرت المضامين الروحية والجمالية لشعر السبعينات والتي فارقت ما كانت عليه قصائد الستينيين والخمسينيين تماماً. ثم ظهر عملي الشعري المطول ( خزائيل ) وهو أول نصّ مفتوح يكتب في العراق وكان بمنزلة كسر للتابو الذي كان يحيط الكتابة الشعرية النثرية وقصيدة النثر ولذلك تدفقت بعده قصائد النثر بلا حدود . وظهر المختبر السبعيني حاملاً أطيافاً جديدة في الاستفادة من الإرث الشرقي والدخول في أغوار التجريب الكيميائي الروحي من سحر وغنوصيات وتصوف وإشراق ، ثم ظهر إستعمال المادة الشعبية وكانت هناك منجزات نوعية كثيرة . وفي هذه المرحلة لم يتوقف زملاؤنا السبعينيون خارج العراق من انجازمشاريعهم الخاصة ايضاً والتي هي إضافة نوعية للشعر العراقي . وهكذا ترى المشهد باذخاً جمالياً وروحياً وشكلياً . أما من ناحية المضمون فقد عزفت هذه القصائد عن أن تكون ضمن آلة الحرب الطاحنة ثم ظهرت المراثي المريرة لما حصل لشعبنا ووقفت قصائدنا بوجه تيار المديح والتسول الذي كان يمارسه بعضهم . وظهر معنا جيل نشيط جديد هو جيل الثمانينات أعاننا على رفع راية الشعر الحقيقي والوقوف بوجه تزييف الشعر ثم قدّم هذا الجيل انجازاته الرائعة في الشعر .

* بعد عقدين ونيّف من الزمان خاض جيلكم السبعيني تجارب عديدة بقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر وكتب النص المفتوح ، والاخير ما زالت الذائقة العربية لم تتقبله بشكل او بآخر ، وجاء الثمانينيون بتجربتهم المعتقة بالحرب والخراب ، ثم جاء التسعينيون بتجربتهم وما زالت الشعرية العراقية برمتها كمختبر كبير للتجربة الابداعية التي رفدت الشعرية العربية بعطاءات لا يمكن التغاضي عنها ، كيف تقوّمون هذه التجارب المتلاحقة والتي حركت المياه الآسنة بعد الركود الذي رافق  الشعر في الوطن العربي ؟
- الشعرية العراقية الحديثة كنز من كنوز الانسانية كلّها ، اليوم وبعد أن حصل ما حصل في الشعر العراقي منذ ستين عاما أرى أن هناك ظرورة شعرية حقيقية أظهرت لنا كل هذا الانتاج ولولا ديمومة الحراك الشعري منذ نهاية الاربعينات إلى يومنا هذا لما كنا حفلنا بكل هذا الانتاج الشعري المذهل . الثورة الشعرية في العراق هي واحدة من أكثر ثورات الشعر قوةً واصالة في الشعر الحديث لأنها انطوت على تجربة صراع حقيقية ، ولأنها جسّدت توقاً لحرية عميقة في الروح والفن . وصحيح أن الشعر العراقي جزءٌ من الشعر العربي الحديث لكّن له خصوصية نادرة فهو بالاضافة الى ريادته فانه ينطوي على خصائص اسلوبية ومضمونية خاصة به . كل شاعر متميز هو طريقة كاملة في الشعر . هناك اليوم ستة أجيال شعرية عراقية حديثة ( الرواد ، الخمسينيون ، الستينيون ، السبعينيون ، الثمانينيون ، التسعينيون ) كلّ جيل أنجزَ أنماطاً متفردة . وأزعم أن النقد العراقي كان عدواً للشعر العراقي فهو لم يتعب نفسه قط في فحص هذا التراث الشعري الهائل بل وقف معارضاً له في كثير من الأحيان . لو كان الامرُ بيدي لنشرت لكل شاعر عراقي حديث من هذه الاجيال شعره في مجلدات كاملة ولبيّنت صواب ما ذهب إليه . الشعر العراقي تناهبته الأهوال التي مرت على العراق مثلما تناهبت أهل العراق وماله وثرواته وأرضه وشعبه . دعنا نبكي على ما جرى ولكن اياك أو إيانا جميعاً نسيان ما أنتجته أرواحنا في سنين الصراع الدامي تلك .. علينا جميعاً أن نقف إجلالاً لكل الشعر العظيم الذي أنتجناه ونحن نمّر بعذاب الحروب والتهميش والجوع والحصار والثورات الفاشلة والخراب والمنافي والسلب والقتل والنهب والاحتلال والفساد والارهاب والديكتاتورية والطائفية . لقد كانت ألوان الحزن العراقي فريدة وقد صبغت شعرنا وحركت أرواحنا ، من جديد ، نحو المطلق الذي فينا أو في الاقاصي . ورغم المأساة على الأرض لكن النتائج كانت مدهشة على الشعر فقد ظهر تراث جديد زاخر يندر وجوده في عصرنا الحديث .
  
* هل كانت الأحداث الكبرى التي مررنا بها تكفي لانتاج شعر كهذا ؟
- لقد لعبناها جيداً ، لعبة الحداثة كتقنيات وأجناس جديدة. . ومرارة ما حصل لنا . هذه الخلطة الموفقة بين المادة والطريقة, بين الطين والقالب . كانت ماهرة حقاً . انظر الى الشعراء العراقيين جيداً وهم يتنافسون على الحديث في عزّ خرابهم الاجتماعي والسياسي . كانوا يحملون عدتهم وهم يقطرون دماً .. ويناورون بها في اتجاهات مختلفة مثل سلاح لا بد له من أن يعمل في ساعة خلاص .
  
* وهل نجحوا في ذلك ؟
- أيما نجاح .. لقد قدموا مذاقاً جديداً للشعر وكذلك مذاقاً جديداً للحياة عندما أجبروها على الاستجابة لهم . الجميع غفلوا عن التراجيديا الشعرية العراقية حتى زملاؤهم الشعراء العرب .. لكن الجميع سوف يفيقون ذات يوم على إنجاز بحجم الكارثة ما زال منثوراً هنا وهناك وفي الأدراج المقفلة ، في الإهمال والنسيان والمنافي والمقابر. سوف يظهر حجم الانجاز العراقي على حقيقته عندما نتخلى عن أنانيتنا ، نحن العراقيون ، ونجمع ما تساقط منّا من الجمال والألم ذات يوم .
  
*  الأُسطورة في شعر خزعل الماجدي ، دائماً حاضرة وبقوة ، ترى هل ان تواجدها نابع من كثرة قراءاتك في تاريخ العراق القديم والاديان ، خاصة وانك من الباحثين الذين رفدوا المكتبة العربية بالكثير من الكتب والبحوث التاريخية الخاصة بالعراق والبلاد العربية ؟ أ تعتقد أن أبحاثك وتعمقك الكبير فيها جعلت من الاسطورة شاخصة في دواوينك ؟ أم أنك تصنع الاسطورة بمهارة الشاعر ؟
- ما هي الاسطورة : إنها حكاية شعرية مقدسة ( عن إله ) تتحدث عن زمان ومكان بدئيين ( خارج التاريخ والعالم ) . والآن وبعد أن أختفت الآلهة ( وحلّ محلها إله واحد مفارق ) ، وبعد أن أصبح الانسان وجهاً لوجه أمام مصيره المحتوم وتفاصيل حياته الكثيرة ، وبعد أن اصبح الأمل في استعادة الزمان الإلهي البكوري عسيراً وأصبحنا نتقلب في طيّات تاريخ يصنعه الانسان لا الآلهة . وبعد أن تحول المكان الى جحيم ولم يعد هناك مكان بريء ومقدس . بعد كل هذا ماذا سنفعل بالأساطير ؟ ، لقد أصبحت عملياً غير نافعة لأنها تنطوي على تخليق أوهام تربك نظرتنا للحياة . ولذلك أقول لم يبق سوى الشعر مكاناً لها .. ولكنها نافرة لأن موضوعاتها ذات حصانة خاصة بها . ولذلك كان لابد من إجراء يضمن لنا فائدتها إذا دخلت الشعر . وأقولها بكل صراحة أن الجميع استعمل الأسطورة بطريقة ساذجة بل وبطريقة مباشرة وكولاجية ، وتحولت الاسطورة الى لافتة هي الأخرى ، نصلح بها أو نزين بها شعرنا . منذ السياب ومروراً بأدونيس وعبوراً نحو كل المحاولات الصغيرة للأجيال اللاحقة تحولت الاسطورة الى عكاز سهلٍ .
  
* كيف تعاملت أنت مع الاسطورة في شعرك ؟
- لقد فعلت ما يأتي: أولاً جعلت من المناخ الأسطوري مناخاً لشعري وبكلمة أخرى تخليت عن الاحداث والشخوص والحكاية في الاسطورة وجعلت من الشحنة التي تبعثها الأسطورة شحنة لشعري . لقد شحذت طاقة الاسطورة وليس تفاصيلها . ثانياً طحنت مادة الاسطورة وحولت طحينها الى غبار شعري ينتشرُ في مفاصل قصائدي ، ولذلك لن تعثر على هذا الغبار بسهولة ، ستشعر به لكن من الصعب التعرف إليه . ثالثاً رفعت الكثير من أحداث حياتي ، التي حولتها الى شعر ، الى مستوى اسطوري . اي انني رفعت الحدث العادي الى حدث اسطوري عن طريق تحويل الشعر الى اسطورة وليس العكس . خذ مثلاً مجاميع ( أناهيت ، خواتم الافعى ، حمام النساء في كركوك ، خيط العبور ، ركوكو .. الخ ) . ورابعاً جعلت من بكورية وبدئية الأحداث مادة لجمل ونصوص وقصائد تكوينية ( خليقية gensis  ) وبذلك صببت افتتاحيات التكوين الاسطورية في مفاصل شعري . وقد انتبه لهذا الإجراء الناقد ( ناظم عودة ) وأسماها ( الشكل التكويني ) وكانت انتباهته لافتة جداً . هذه الإجراءات وغيرها مما يصعب التنظير فيه كان كله بسبب ما اسميته أنت ( استغراقي في الاساطير ) وخصوصاً اساطير وادي الرافدين التي اعتبرها ( أم الاساطير ) في التاريخ . لقد تشربت الاساطير في روحي أولاً قبل أن احاول الاستفادة منها ولذلك تجدني أتعامل بها كاحدى مكوناتي الروحية قبل كل شيء .
  
* هل أنت صانع أساطير شعرية جديدة ؟
-   ربما .. ولكن دعني اقول لك انني أرى بأن ( الأسطورة ) في معناها القديم بنية شعرية جماعية نضحت من روح الجماعة و ( القصيدة / النص ) بنية شعرية فردية تنضح من روح الفرد المحتشد داخله بروح الجماعة عن طريق الرموز والأركيتايب ( النماذج البدئية ) . وهكذا أرى أن الشعر هو أسطورة فردية . في حين كانت الاسطورة شعراً جماعياً .
  
*لك تنظيرات كثيرة في الشعر ومراحله وتطوراته ، وقد اصدرت كتاباً في عام2004عن دار الشؤون الثقافية في بغداد عنوانه (العقل الشعري) كيف تحدثنا عن هذا الكتاب وعن الخلاصة التي خرجت فيها عن الشعرالعراقي؟    
-  ( النظرية الشعرية ) شيء مختلف كلياً عن ( النقد الشعري ) ولذلك جاء كتابي ( العقل الشعري ) كجزء من مسعى يحاول الدخول الى النظرية الشعرية . وقد صدر الكتاب بجزئين عام 2004 وهو أولاً يحاول أن يعيد ترتيب الشعر ونظرية الشعر بطريقة جديدة فهو يرى أنهما ( الشعر ونظريته ) جزء من العقل الشعري الذي هو العقل الأول في منظومة العقل الشعري المكون من أربعة عقول متداخلة ( الشعري ، الديني ، الفلسفي ، العلمي ) .  أرى أن العقل الشعري حاضر في حياة الانسان اليومية وهو المسؤول عن التعامل مع كل ما يخص الشعر والادب والفن ، إنه عقل لا يبحث عن الحقيقة ( كما في العقول الأخرى ) بل هو يكشف أغوار الانسان التي تميل نحو المدهش والجميل والغامض والغريب والشاذ . إنه عقل اندرج ، مع الاسف ، في هامش اهتمامات الانسان العادي لكنه ، كما أرى ، أهم من العقول الأخرى المكبلة بالأيديولوجيا أكثر منه . إنه العقل الذي يسبب الإبداع . لقد حاولت أن أرصد طبيعة وشكل وتكوين هذا العقل الشعري في كتابي هذا .
  
* تبدو فكرتك جديدة ومن الواضح تماماً أنك تحاول إعادة الاعتبار لـ ( عقل شعري ) أهمله حتى النقاد ؟
- بالضبط . الشعراء لاهون عن العقل الشعري بنصوصهم ولا وقت ولا مزاج لهم للتنقيب عن مصدر الشعرية وكيفية حصولها فالمهم عندهم نجاح نصوصهم . النقاد بعيدون عن هذا الموضوع ، الفلاسفة والعلماء والمؤمنون في عقولهم لا يبارحونها . لقد كانت أمامي فرصة نادرة للتنظير بهذا الاتجاه ثم حاولت فتح مغاليق كثيرة واكتشاف أرضٍ جديدة . وقد أعانتني معرفتي المتواضعة بما كان عليه الشعر في الحضارات القديمة بشكل خاص وكذلك ما فعلته الحداثة في الشعر من تحولات جذرية . واليوم أتطلع لإكمال أجزاء جديدة من العقل الشعري لأن هناك الكثير الذي اكتشفته لاحقاً ، وربما ستشهد الأعمال القادمة ظهور هذه الأجزاء وبظهورها يكون المشروع النظري قد انجز .

* في ظلّ الأحداث المرعبة التي عصفت بالعراق منذ عقود ، كيف ترى الخسارات المتتالية والفقدان والمنفى والهجرة التي كلها تضغط عليك كشاعر عراقي وجد نفسه خارج وطنه ؟
- تراجيديا العراق المعاصر سكنت أرواحنا وعقولنا منذ عرفنا أننا في هذا الوطن نعيش منذورين له ولا يعيش هو وثرواته منذوراً لنا ، وقد بدأت الخسارات منذ أصغينا لدويّ الثورات والشعارات الطنّانة وعندما تستّر النظام السابق بشعارات براقة رافقها عنف اجتماعي وسياسي أدركت أننا ذاهبون الى الهاوية . وهكذا انكشفت الأحداث عن قتل ونفي وتشريد وفقدان وهجرة وضياع . كل المعاني السلبية انطوت في بذرة بداية كانت ستينية الفضاء بعد سقوط الملكية وظهور الجمهورية ثم توالت عقود التراجيديا . لم يكن هناك عقلاءٌ ومفكرون وفلاسفة يحذروّن من عاصفة التراجيديا التي ستأكلنا جميعاً .. كان الكلّ يطبّل على طريقته .. حتى إذا ما بدأ الخراب هرب الجميع ولاذوا بالليبرالية والديمقراطية وتمجيد النظام الملكي ، اين كانوا ساعة قرع الطبول ؟ لقد خُدعنا غير مرة . كان الشعر عزائي الوحيد في هذه الخسارات ، لعلّه الوسيلة التي استطيعها لتسجيل هذه الغفلة وهذه الخديعة وهذا الخراب وهذا النفي . تمنيت أن أكون روائياً لأسجل برهافة ودقة مضمون ما حصل . لكن الشعر لا يتركني ابداً . أول كتاباتي الشعرية عن هذه الخسارات كانت في منتصف الثمانينات عندما كتبت مجموعة ( موسيقى لهدم البحر ) المنشورة في المجلد الثاني من أعمالي الشعرية والتي اكملتها في منتصف التسعينات ثم جاءت ( حيّة ودرج ) في عام 1993 . ثم فلم طويل جداً عام 2003 . واليوم أعمل بمشروع كبير هو "احزان السنة العراقية" وهواً يرصد ما حصل بعد عام 2003 ورعب الارهاب والدمار . وانت تعرف أن المنفى سوف يكون حاضراً بقوة رغم أني كنت ، عملياً ، خارج العراق منذ عام 1995 .
  
* في السنوات الاخيرة عزمت على جمع تجاربك الشعرية في قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر والنص المفتوح بمجلدات صدر الاول عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر وثمة مجلد ثان وثالث انجزته او رابع بعدها  ، نود أن تحدثنا عن هذه المؤلفات ،هل جمعت فيها خلاصة تجاربك الشعرية ؟ وهل رفضت نشر بعض القصائد التي تحس أنها لا تمثلك ، قد تكون كتبتها في بداياتك الاولى مثلاً ؟
- في عام 2001 صدر المجلد الاول من أعمالي الشعرية وضّم ست مجاميع من قصائد النثر وهي ( أطلس شرقي ، فيزياء مضادة ، قصائد الصورة ، أناهيت ، إسمعي رمادي .. إسمعي موسيقا الذهب ، مخطوطات غجرية ) مع مقدمة عن الشعر الشرقي .. وفي عام 2005 صدر المجلد الثاني وضمّ سبع مجاميع كان أغلبها من قصائد التفعيلة وهي ( يقظة دلمون ، أناشيد اسرافيل ، الياقوتات ، موسيقا لهدم البحر ، خواتم الأفعى ، وحيداً عند عمود السماء ، السومرية أحلام في اتضاح جحيمها وفراديسها العالية ) مع مقدمة عن السحري والايروسي في الشعر . . وفي عام 2008 صدر المجلد الثالث وضم ست مجاميع من النصوص المفتوحة وهي ( عكازة رامبو ، حية ودرج ، خيط العبور ، حمام النساء في كركوك ، ركوكو ، فلم طويل جداً ) مع مقدمة عن النص المفتوح .. وسوف يصدر في عامي 2009 و 2010 المجلدان الرابع والخامس ، وسوف يكون المجلد الرابع مكرساً ل ( خزائيل ) بكتبه الاثني عشر مع مقدمة عن الشعر الغنوصي . أما المجلد الخامس فسوف يكون ( أحزان السنة العراقية ) مع مقدمة عن الحوليات الشعرية . وهما تحت الطبع الآن . ولعلك تلاحظ بأنني أسير في خطوط منتظمة الاصدار كل نتاجي الشعري على وفق أجناسية خاصة بيّ . والحقيقة أن هذه المجلدات تضم كل شعري ولم اضطر لحذف شيء لأني اعتزّ بكل ما كتبت أما البدايات الأولى فقد أهملتها منذ صدور المجموعة الاولى ليّ ( يقظة دلمون ) فقد ضمت كل ما أخترته في السبعينات وبذلك اكون قد أهملت بعضاً من شعري لأنها ظهرت في 1980 . ومع صدور المجلد الخامس وربما السادس بعده أكون قد أكملت رسالتي الشعرية نصوصاً وبذلك يمكن الاطلاع على كل تجربتي في هذه المجلدات من دون شك .
  
* أنت الأغزر شعراً في جيلك وربما سوف تكون الاغزر شعراً في الشعر العراقي ، كيف تفسر غزارتك الشعرية ؟
- أنا لا اعيش إلاّ من أجل الشعر . أعيش الحياة بكل تفاصيلها ولكني لا أغفل عن الشعر أبداً . كلّ تفصيل في حياتي مضمّخ بالشعر ولعلك ترى هذه الفسيفساء الشعرية في مجلداتي وانا اليوم أكثر إصراراً على أن الشعر هو خلاصي الأول في هذا العالم لأني أجد فيه ذخيرة عمري كله . كتبتُ عن أفراحي وأتراحي وعن دواخلي وعن أساطيري وعن النساء اللائي عرفتهن وكتبت عن مأساتي وكتبت عن بلدي وعن روحي وعن جسدي وكتبت عن ضعفي وهيامي وعذابي وخوفي وشكوكي .. الشعر جمعني ككائن مصنوع من الكلمات ودونني في أديم الزمان . ولعل تفسير غزارتي أنني صاحب مشاريع شعرية لا صاحب قصائد أو مجاميع شعرية . أنا أدخل بين الحين والحين في مشروع شعري كبير يستغرق سنوات حتى يكتمل . والمهم ليس الغزارة بل المهم هو النوع الشعري واتمنى أن أكون قد نجحت في بعض قصائدي ونصوصي وقدمت شيئاً مفيداً للشعر والقارئ.
  
* ننتقل الآن من الشعر وشجونه الجميلة التي دائماً تمد الانسان بالقوة والصبر لتغيير أخطاء العالم الى تجربتك في المسرح ، أتعتقد أن الشاعر لابد له أن يخوض تجربة الكتابة المسرحية خاصة وأن غالبية الشعراء الكبار في العالم لهم تجارب كبيرة في المسرح ؟
- تجربتي في المسرح هي واحدة من اهم التجارب التي خضتها والتي اثرت ايجابياً في الشعر . المسرح هو أهم مخاصبة لشعري بعد الاسطورة واصبحت له طبقات جديدة . دخلت عناصر الحوار والدراما والواقع في شعري بعد أن خضت في المسرح . لا أعتقد أن على كل شاعر أن يخوض في المسرح ولكني أقول إذا كانت عند الشاعر حاجة للكتابة للمسرح فعليه أن يخوضها دون تردد وإذا وجد أنه قادر على تقديم شيء جديد للمسرح فعليه أن يستمر حتى يقدم ذلك الشيء .
  
* وهل قدّمت شيئاً للمسرح ؟ وما هو بالضبط ؟
- أعتقد ذلك ، لاني زاوجت بين تقاليد المسرح الحديث وتقاليد الشعر الحديث . لقد انتبهت الى أن ما عرفناه من ( المسرح الشعري ) في عصرنا العربي لم يتعد تلك المسرحيات المنظومة شعراً والتي كان ابرزها نماذج شوقي وصلاح عبد الصبور . وقد كنت أراها مملة بسبب النظم . ولذلك قررتُ معالجة ( المسرح الشعري ) بطريقة جذرية كان أساسها إلغاء النظم الشعري والاعتماد على المضمون الشعري والعناية بالحوار ذات الطبيعة الشعرية وإعلاء شأن المخيلة والعناية بالصورة وغيرها وأزعم أني وضعت أساساً جديداً لما يمكن أن يكون عليه ( المسرح الشعري الحديث ) الذي أراه واضحاً في أعمالي المسرحية .
  
* أعتقد أن المسرح العراقي يتفوق كثيراً على التلفزيون والسينما في العراق وله مكانة مرموقة داخل الوطن العربي ولطالما حصد الكثير من الجوائز في العديد من المهرجانات ، كيف تقوّمون الواقع المسرحي العراقي بعد الهجرة الكبيرة التي قوّضت مرافق الثقافة العراقية، ما أدى إلى شل الحركة المسرحية تماماً ، وما هي السبل الكفيلة للخروج من هذه الازمة الثقافية والتي هي واحدة من الكثير من أزمات الثقافة العراقية في ظل الاوضاع الراهنة ؟
- المسرح العراقي يقف في طليعة المسرح العربي ، وما زالت بذرته حيّة وقادرة على إثبات أعمال جديدة وكبيرة . المسرح العراقي يعاني في الداخل من الاجراءات الموضوعية والامكانات المادية ومن أخطاء إدارية كثيرة .. لكنه كفنٍ ما زال حياً ويمكن أن يستعيد عافيته بسرعة . المسرحيون الشباب هم مفتاح الحل في معالجة أزمة المسرح العراقي وبفتح الابواب لهم واعطائهم المجال يمكنهم أن يجددوا روح المسرح العراقي إنهم أمناء على المستوى الرفيع الذي كان المسرح العراقي يظهر به . لكني ، معى الأسف ، لمحت تعطيلاً لدورهم وتهميشاً لهم وأنا أدعو لرفع الحيف عنهم فهم ثروتنا الحقيقية . انا تماماً مع أن يعتمد المبدعون على أنفسهم في الانتاج ولكن ليس الآن بل في مستقبل قريب أو قادم ، أما الآن فيجب إيقاف الابداع على قدميه أولاً بدعم لا محدود من الدولة له. وحينما يتعافى ندعه يقف ويمشي ويركض وحده . هناك من يطالب المبدعين من الآن أن يصنعوا قطاعاً خاصاً لهم وألاّ يعتمدوا على دعم المؤسسات الحكومية . وينسون أننا في العراق المحطم المدمر الممزق الذي صُبت عليه كل آلآم السماء والأرض .. ينسون أن مثقفنا ما زال يخاف من ظله . يريدون أحلاماً وردية ونحن في التراب . البداية بالدعم المتواصل ثم التنظيم ثم الاعتماد على النفس . ويجب أن تقوم الدولة بفعل أساسي في البداية . وخصوصاً في قطّاع المسرح الذي يحتاج كثيراً الى مثل هذا الدعم . 
  
* ومن المسرح وهمومه المؤلمة نود أن تحدثنا عن الانعطافة التاريخة المهمة في حياتك انطلاقا من تاريخ العراق القديم وتاريخ الاديان ، كيف كانت قراءاتك الاولى للتاريخ القديم وبحثك الدؤوب في التنقيب عن الصغيرة والكبيرة لهذه الحضارة العظيمة التي لها الفضل الاول على البشرية في الكثير من مرافق الحياة ؟
- كانت ثقافة العراق القديم جزءاً مهماً من ثقافتي منذ السبعينات وكنت أجمع كل شاردة وواردة عن حضارة وادي الرافدين ، وبعد عشرين سنة من القراءة والتتبع وجدت نفسي أحفظ اسماء ونصوص واحداث ذلك التاريخ بسهولة ويسر . كنت اتحدث عن مائه من الآلهة السومرية مثلاً مثلما اتحدث عن الذكريات مع اصدقائي وكانت المدن واسماء الملوك والأحداث تجري على لساني بسهولة وعذوبة . في منتصف الثمانينات وجدت نفسي أكتب فصول كتاب جديد وغريب في الوقت نفسه اسمه ( سفر سومر ) نشرته على فصول في مجلة ( الاديب المعاصر ) التي كانت تصدر عن اتحاد الأدباء في العراق . ثم اصدرته في كتاب كامل عام 1990 وكان جمعاً منظماً وإعادة كتابة وشرح للأساطير السومرية . واذكر أن أدونيس أرسل لي رسالة تحثني على أن استمر في هذا المشروع لبقية حضارات العراق والمنطقة . وكتبت ( سفر بابل ) . لكّن الحدث الأهم في حياتي هو انني التحقت عام 1993 بمعهد التاريخ العربي للدراسات العليا وهو معهد تابع لجامعة الدول العربية ، ودرست التاريخ وأوليت تاريخ وحضارة وادي الرافدين اهتمامي الأكبر حتى كتبت اطروحة الدكتوراه عن ( الطب وعلاقته بالسحر والأسطورة والدين في وادي الرافدين ) واشرف عليّ الدكتور فوزي رشيد استاذ الكتابة المسمارية ومدير المتحف العراقي . وما أن تخرجت حتى طبعت الأطروحة بعنوان ( بخور الآلهة ) .. ثم وسّعت ( سفر سومر ) و ( سفر بابل ) وأضفت لهما مادة البحث الاكاديمي ونشرتهما تحت عنوانين جديدين هما : ( إنجيل سومر ) و ( إنجيل بابل ) .
  
* ولكنك واصلت مشروعاً كبيراً في تاريخ الاديان !؟
- نعم .. فقد اتفقت مع دار الشروق في عمّان على اصدار سلسلة كبيرة من الكتب تصل الى ( 30 ) كتاباً عن تاريخ وعلم الأديان وقد أصدرت منها إلى الآن عشرة كتب تقريباً وسأواصل المشروع . ولعله المشروع الاكبر في حياتي . والذي وسّعتُ فيه دائرة اهتماماتي خارج وادي الرافدين .
  
* وماذا عن مؤلفاتك في علم الأساطير ( الميثولوجيا ) ؟
- استمرت كتبي الأخرى خارج المشروع السابق فصدرت ليّ كتب كثيرة كان أغلبها في علم الأساطير ( الميثولوجيا ) . فقد أصابتني حمى البحث ولم أتوقف عنها إلى اليوم . أصبح مشروعي هذا جزءاً من روحي وعقلي وأنا اليوم به سعيد . لكن اهتمامي بتراث وحضارة وتاريخ وادي الرافدين يبقى هو الاساس لاني أشعر بالإقتراب من قاعي الروحيّ وهو ما يلامس شعري أيضاً وما أنهل منه في المسرح أحياناً .
  
* بعد وصولك الى العاصمة الاردنية عمّان أواخر عقد التسعينات من القرن الماضي ، أذكر جيداً أنك أعتكفت في غرفتك لشهور وأنجزت العديد من الكتب عن تاريخ العراق القديم والاديان ، هل كان تفرغك لهذا المشروع هو وضع اللمسات الاخيرة لمشروعات كانت مؤجلة فأنجزتها بعد أن تهيأ لك فضاء واسع من الحرية ؟
- بدأت بالتردد على ( عمّان ) بعد حرب الخليج الثانية ( 1991 ) . أما تنظيم النشر فيها فقد بدأ منذ عام 1995 ، وأنت تتحدث عن المرحلة التي كنت قد نشرت فيها الكثير من الكتب وواصلت عملي في هذه المرحلة بإنجاز كتب جديدة عندما أجّرت غرفة وبدأت أقضي ساعات طويلة في البحث عن المصادر في المكتبات والكتابة وتصحيح التنضيد والاشراف على الطباعة .. كانت أجمل سنين حياتي فقد انجزتُ تأليف ونشر ما يقرب من عشر كتب ما بين ( 1995 - 2000 ) رغم أني ذهبت الى ليبيا في نهاية عام 1998 للتدريس في جامعة درنة . لكن حماس النشر ظل يلازمني وما زال إلى الآن .

* وكم أصبح عدد كتبك في هذا الحقل ؟
- إثنان وعشرون كتاباً .

* وهل أثر هذا المناخ سلباً في شعرك ؟ هل تلمست جوهراً ما في اهتمامك بالحضارات والاديان والاساطير ؟
- بالتأكيد .. لقد نضح في روحي الكثير الكثير واصطبغت هذه الروح بألوان جديدة أراها اليوم مثل قوس قزح اتنقل بين ألوانها وبساتينها والتقط منها الكثير من الكنوز . دعني أقول لك أن اهتمامي بهذا الحقل كان مثل الموشور الذي عندما سقط عليه الشعر تحّول الى ألوان قزحية نادرة ، وقد صارت هذه الألوان فرشاتي في كتابة الشعر . كنتُ أقول دائماً أن كنوز الروح الكبرى تساقطت في حقل الاديان وها أنا أعيدها الى الشعر الذي هو أحق بها . لقد كانت استفادتي من هذا الحقل لا حدود لها وأنا اليوم أدين له بأغلب خبراتي الروحية خاصة . ثم لاحظ انني احتضنت بقلبي كل الأديان وأحببتها دون تمييز أو تعصب ووجدت فيها المحفزات الكبرى للتعرف إلى المطلق أو تأمله .

* ما هو جديد خزعل الماجدي في الشعر والتنظير والمسرح والأبحاث ، خاصة وانك تقيم منذ مدّة في مدينة أوروبية تمنحك فضاءات واسعة وتهيئ لك الاجواء الصافية التي يرغب فيها الكاتب دائماً لمواصلة مشروعاته المؤجلة أو التي كان يحلم بأنجازها ؟
- دعني اقول أولاً بأني خرجت من العراق عام 2006 جريحاً فقد خطف الارهابيون ولديّ البكر ، وكادت عائلتي تتمزق على أثر هذا الحادث لولا أني وقفت على اقدامي ووجدت لي ملاذاً آمناً . لن تصدق إذا قلتُ لك إن الكتابة كانت هي القوة التي جعلتني امتصّ ألمي وحزني وجعلتني أقف على أقدامي . كانت الكتابة مليئة بالدمع في انتظار أن يعود ولديّ .. وخصوصاً الشعر عزاءً حقيقياً وطاقة خلاّقة أعطتني الصبر والقوة ومكنتني من المقاومة . ولذلك ملأت وقتي هذا بالكتابة في مختلف الحقول . في الشعر أنا في صدد إنهاء أكبر مشروع شعري يجمع بين مأساتي ومأساة بلدي وبأثني عشر جزءاً اسميته ( أحزان السنة العراقية ) وسوف يصدر قريباً في مجلد شعريّ هو المجلد الخامس من أعمالي الشعرية ، وفي الشعر ايضاً سوف تظهر ليّ أعمال جديدة منها ( ربما .. من يدري ) و ( فلم طويل جداً ) و ( حينما ماء القلب ) .. وفي التنظير الشعري أسعى الى إكمال الجزء الثالث من ( العقل الشعري ) أما في المسرح فكتبت عملين مسرحيين هما ( نصب الحرية ) و ( نساء السواد ) ربما يظهر الأول منهما في وقت قريب على الخشبة . في الحضارات والأديان انجزت ( الميثولوجيا المندائية ) وأعمل على اللمسات الأخيرة لكتابي ( تأويل جلجامش ) وهو ترجمة جديدة لجلجامش وتفسير جديد لها . أعمل بكل هذه الكتب ليل نهار وعيناي مليئتان بالدموع في انتظار أن يعود لي ولديّ ...