التسميات

السبت، 18 يونيو 2011

د.خزعل الماجدي: الحب هو أعظم الأساطير الشخصية

في حوار خاص بدار الكشكول:
الشاعر والباحث والأديب العراقي د.خزعل الماجدي:

*كل ماضي البشرية كان غارقا في الاساطير
*اليوم ، بعد أن تحررت الأساطير من غلافها المقدس ، تحولت من الدين إلى الأدب
*أنا مع الحاسوب والنت تماما ولكني لا أضعهما بديلا للكتاب الورقي أبدا .
*الحب هو أعظم الأساطير الشخصية
*ما نحتاج إليه اليوم ليس العلم أو الدين أو الشعر ،بل نحتاج إلى طريقة حياة تخلصنا
من كل أخطاء البشرية الماضية والحاضرة
*الوطن هو المكان الذي يحميني ويمنحني الأمان ويشعرني بإنسانيتي



د.خزعل الماجدي

طالعاً من وردة الجرح العميق، مكابراً على الفقدان ولوعة الغياب، حمل أحلامه و غصّته ومضى. الوطن في البعيد يلوح حنيناً ذبيحاً، لكن روحه تبحث عن ضوء غريب. هل هي الأسطورة؟ هل هو الأبد؟ بم يحلم الغريب غربتين؟ ماذا يحاول؟ ما الذي يفعله الآن هذا القادم من أرض الأساطير إلى بلاد الثلج؟ وهل سيجد الشمس أم العشبة التي ضيّعها جلجامش؟
الدكتور خزعل الماجدي، الشاعر المبدع المجدّد والباحث الدؤوب الغزير الإنتاج يطبع بصماته المضيئة في المشهد الأدبي المعاصر، سواء على صعيد الإبداع الشعري أم في حقل الدراسات التاريخية والأدبية الضاربة في جذور الأساطير.




حاورته د.هدية الأيوبي:

-أبدأ من أبحاثك المتعمقة في الأساطير، ما الحيثيات التي جذبتك إلى الأسطورة ؟

*ربما شغفي بالأعالي وميلي إلى المُثل ، هذه المثل التي يجنح لها كل إنسان مفطور على الحب والخير والجمال ويؤمن بها دون النظر ألى خطورة التعلق بالمفاهيم الشمولية ، واليوم لابد أن أقول بصراحة أن المٌثل التي كانت أساس فلسفة أفلاطون إنما هي الأساطير ، لأنها نموذج إلهي كامل ولأنها قاصية في بدء الزمان ولأنها في المكان الأول قبل وأثناء وبعد خلق الكون ، لكن افلاطون لم يشأ تسميتها بالأساطير لأن الفلسفة كانت للتو قد تحررت من الأساطير وكوّنت حقلاً خاصاً بها .
الأسطورة كانت مخزن العقل كله في الماضي ففيها الشعر والعلم والتاريخ والفن والفلسفة ؛ كل هذه العناصر كانت مشفّرة بطريقة مقدسة في الأسطورة على شكل حكاية إلهية . وهذا بحد ذاته عامل جذب كبير .
الذين ينظرون للأساطير على انها خرافات لانفع فيها هم جهلة بل أغبياء ،لأنهم يحذفون ،بقصد أو دون قصد ، ثمانية أتساع المعرفة التي كان الماضي يسبح فيها (النسبة هذه مستعارة من جزء الجليد الذي يغطس في الماء ) ، كل ماضي البشرية كان غاطسا في الاساطير بهذا الشكل أو ذاك ، والحاضر أيضا يلتمع بها في كل حين.
واليوم ، بعد أن تحررت الأساطير من غلافها المقدس ، تحولت من الدين إلى الأدب وعلينا أن نستفيد منها تماما.


-بين الأسطورة والتاريخ علاقة اختلاف ..هل للواقع جذور أسطورية ؟

*الأسطورة ضد التاريخ ، فهي تؤسس لزمان ومكان مقدسين بينما التاريخ يؤسس لمكان وزمان عاديين . الأسطورة مسارها دائري والتاريخ مساره أفقي ، الاسطورة هي الماهية بينما التاريخ هو الصيرورة .الأسطورة حكاية إلهية بينما التاريخ حكاية بشرية وهكذا نرى التناقض بينهما واضحا . لكن هذا لايعني أن الاسطورة لم تصنع الواقع او تساهم في صنعه ،فالواقع لم تصنعه الاحداث والاقتصاد والسيا سة والحاجات الاجتماعية بل صنعته الأساطير أيضا ، لاحظي أن أي دين تكونه الاساطير وتشكل أحد مكوناته الرئيسية ، ومعروف ان الاديان لعبت اكبرالادوار في تأسيس الواقع وما
 زالت . ثم أن بنا حاجة أساسية للأساطير لأنها تشبع تطلعا خارقيا وماورائيا ومقدسا فينا . وهناك اليوم ما أسميه ب(الأسطورة الشخصية ) التي هي وريثة الأساطير الكبرى بعد أن خفت ضوء الأديان القديمة.
الجذور الأسطورية للواقع ترقد هناك في الاعماق وهي ذخيرة للجمال والخيال والشحنة الروحية والرموز والاركيتايب (النماذج البدئية ) التي بها يتشكل الفرد والجماعة نفسياً وحضارياً.


- على أية ضفة تجد ذاتك أكثر سطوعاً :الكتابة الأكاديمية أم الكتابة الشعرية ؟

*الشعر هو الأول في حياتي كلها وليس في الكتابة فقط ،فهو الموئل الذي أنهل منه بلا نهاية ، خصوصاً أنني اخترعت جوهرا ومجالا وينبوعا ومفهوما جديدا للشعر لا أعتقد أن هناك من ذهب إليه سابقا . لذلك تجديني أغرف من هذا البحر اللا متناهي والمتلاطم دون كلل او تعب حتى أنشط وأؤسس عقلي وروحي ونشاطي المعرفي .
ولاشك أن الكتابة الاكاديمة التي أمارسها قريبة جدا من حقل الشعر فأنا اشتغل في تاريخ الأديان وهو جزء من تاريخ الروح الذي انشغل به الشعر . وأكتب في نظرية الشعر ، وأشتغل أيضا في تاريخ الفن وهذه أيضا جزء من تاريخ الروح ، وبذلك ترين أني أمارس الشعر بمعناه الواسع والكبير على مستوى النص وعلى مستوى النظر . أي الشعرية و"الميتاشعرية" وهو ما يجعل تخاصب الحقلين كبيرا جدا .


-قلت إنك اخترعت مفهوما جديدا للشعر .. ما هو ؟

*في كتابي (العقل الشعري ) وهو كتاب كبير الحجم (800 صفحة ) كشفت عن منطقة العقل الشعري وحاولت وصفها بالكثير من البحوث والبيانات . وفيها تحدثت عن الركن الرابع من العقل البشري الذي كنت أراه مؤسسا عبرأربعة عقول أساسية هي (الشعري ، الديني ، الفلسفي ، العلمي ) ورأيت أن لكل من هذه العقول جوهر أو "داينمو" يحركه . لايمكنني في هذه العجالة توضيح كل شئ، لكني رأيت أن الشعر أكبر من أن يكون قصيدة أو نصّا. إنه طريقة كاملة لتفسير الحياة والنظر لها وهو قوة جبارة من قوى العقل البشري تشكل أعمق طبقاته وأخصبها وأكثرها فطرية وبدائية فهي مؤئل كل الجمال والعفوية
 وهيجانات الروح والنفس . لقد رأيت أن الدين ، كل الدين ، هو جزء من الشعر لكن العقيدة جمدته وكلّسته . وهكذا ...


- اشتهرت بقصيدة" أحزان السنة العراقية" .. ماذا وراء هذه القصيدة ؟

*"أحزان السنة العراقية" هو آخر أعمالي الشعرية ، وهو ليس قصيدة بل هو عمل شعري طويل يضم 365 قصيدة وضعتها على ضوء الروزنامة . فبعد أن وصلت التراجيديا العراقية إلى ذروتها في عام 2006 من قتل وتفجيرات ودمار وخراب لم يشهد له العراق مثيلا في كل تاريخه، وبعد أن نالني هذا الخراب حيث خُطف ولدي الصحفي (مروان ) ولا أعرف مصيره إلى اليوم ،وبعد أن هجرت العراق إثر ذلك قررت أن أكتب عملا مهما يعبر عن هذه السنة الفجائعية ، فكتبت قصيدة عن كل يوم من أيام السنة بعضها يعبر عن ماحدث في ذلك اليوم (على المستوى العام والشخصي والتاريخي ) وبعضها يتناول مشاهد الموت
 والرعب في عراق ممزق وجريح وهو على مشارف الموت .
أسميت العمل ب"أحزان السنة العراقية" لأني دوّنت شعرياً مشهد الحزن العراقي مجتمعاً في الحاضر والماضي .


-هل العمل عبارة عن (نص مفتوح ) كما تبشّر به في آخر طروحاتك النظرية في الشعر ؟

*لا .. العمل هو عبارة عن قصائد تجمعها صيغة الروزنامة ، وهو عمل جديد لم يسبق أن كتب فيه أحد بالصيغة التي كتبته فيها .

-ماذا عن (النص المفتوح ) .. هل توصلت إلى تحديد معالمه كناقد وومارسته كشاعر ؟

*شرحت هذا مفصلا في بياني الشعري الخامس عن ( النص المفتوح ) والذي تصدّر المجلد الثالث لأعمالي الشعرية ، وخلاصة ذلك أني أرى بأن النص المفتوح نوع شعري جديد أتى بعد قصيدة النثر ، ويختلف كليا عن قصيدة النثر في أنه طلاق مع فكرة وبنية القصيدة أصلا واعتماد مفهوم النثر نصا .
وبطبيعة الحال فقد كتبت منذ عام 1980 والى الآن أعمالا بل كتبا كاملة من النص المفتوح مثل (خزائيل ، عكازة رامبو ، حية ودرج ، خيط العبور وغيرها ) ، وكنت أجمع عدتي لكي أكتب عنه نظريا حتى جاء هذا البيان فعبر عنه تماما .
بمعنى آخر أني مارست أولا كتابة النص المفتوح لزمن طويل ثم كتبت نظريا عنه .


- صورة الكاتب في القرن العشرين أنه يجلس في المقهى مع سجائره وأوراقه ويكتب . أما في القرن الحادي والعشرين فالشاعر يحمل حاسوبه في كل مكان وزمان ويكتب ، هل مازال هناك من يدافع عن الكتاب الورقي ؟ ما رأيك ؟

*أنا من يدافع عن الكتاب الورقي رغم أني لا أفارق الحاسوب ، الحاسوب سهـّل مهمة الكتاب الورقي ولايمكن أن يكون بديلا عنه ،إنه يساعد الكتاب والأدباء والشعراء على أن ينجزوا أعمالهم بسرعة ويوصلوها بسرعة ولكن من أجل أن يكون هناك كتاب ورقي في الأخير . الحاسوب والنت كتابة ضوئية وأثيرية لا نلمسها ولا نراها .أما الكتاب فحميم وقٌد أصبح جزءا من الروح ومن تاريخ الروح ، أنا مع الحاسوب والنت تماما ولكني لا أضعهما بديلا للكتاب الورقي أبدا .

-أسأل عن تقنية الكتابة لأنني أشعر أن أيدينا ماعادت تجيد الكتابة بالقلم أو (النون ) الذي لم نعد نستخدمه إلا للتوقيع ، بين الكتابة بخط اليد والضرب على المفاتيح ماذا ربحنا وماذا خسرنا ؟

*أنا من الداعين لاستخدام الوسيلتين ، فالكتابة بخط اليد حرفة أصيلة لايمكن أن نستغني عنها أو نستبدلها ، وكذلك الضرب على المفاتيح لا يجوز إهماله أو عدم تعلمه . والحذر كل الحذر من أن يكون أحدهما بديلا عن الآخر وبذلك نكون قد ربحنا الاثنين . أنا شخصياً مازلت أكتب أعمالي (الإبداعية خاصةً ) باليد بل وبقلم الرصاص أو البصمة ومعي المحاية والمبراة .. وهذا يزيدني نشوة وولعا . لكني أنضد بعضها على الحاسوب وأخزنها وأرسلها وأحلم أن تظهر مطبوعة على الورق ، وهذا النظام أي (الكتابة باليد ، التنضيد ، الطباعة على الورق ) نظام متكامل لاأحبذ ثلمه أو التعامل مع بعضه دون الآخر .

-روى باولو كويلو في روايته الشهيرة (الخيميائي ) عن الأسطورة الشخصية ، هل العشق أسطورة ؟ وهل مازال ممكنا تحقيق هذه الاسطورة في الألفية الثالثة؟

*تحدثت شخصياً عن الأسطورة الشخصية كثيرا دون أن اعرف ما قاله باولو كويلو ، وأعتبرت أن الشعر هو نوع من الأساطير الشخصية ، بل وذهبت إلى أبعد من ذلك حين قلت أن لكل إنسان أسطورة أو أساطير شخصية بعضها يكون جزءًا من المقدس وبعضها يكون جزءًا من العاطفي وبعضها يكون جزءًا من الجمالي . وبذلك تكون الأسطورة الشخصية في نظري قائمة على جوهر مركب من (المقدس والعاطفي والجميل ) ويكون الحب أحد أشكالها وقد يكون العمل أو العلم أو الهواية مظاهر لها . إن الأسطورة الشخصية هي وارثة الأساطير العامة , شرحت هذا في الكثير من كتبي وأبحاثي وهو موجود في (العقل
 الشعري ) ليتنا نستطيع صياغة تلك الأساطير الشخصية في أشكال فنية وجمالية قد يكون الشعر أهمها .
الحب هو أعظم الأساطير الشخصية لأن فيه من الذات الكثير، ولأنه ينبع من وجدان عاطفي يحتدم بالرغبة والخوف وهي الينابيع نفسها التي تنبع منها الأسطورة بالمعنى الذي نعرفه . ثم أن الحب يحتوي على قوتين متماسكتين هما قوة الإيروس المحبة للحياة وقوة الباثوس المحبة للموت ، في الحب تناقضات واحتدامات لاتوفرها إلا دراما الأسطورة ، ولذلك سعيت إلى نحت مصطلح الأسطورة الشخصية من خلال الحب والشعر بشكل خاص باعتبارهما أساس هذه الأسطورة الشخصية .
وبكلام آخر، ما نحتاج إليه اليوم ليس العلم أو الدين أو الشعر ،بل نحتاج إلى طريقة حياة تخلصنا من كل أخطاء البشرية الماضية والحاضرة .وربما كان للأسطورة الشخصية دور في ذلك لكي نتحرر أيضا من قيود وشراك العقائد العلمانية والليبرالية التي تحولت إلى أيديولوجيات(فضلاً عن العقائد الدينية والحزبية ) ولنشق طريقاً جديداً باتجاه حرية الأنسان .


- ماذا بقي من الأمس العراقي في داخلك ؟ وأين تجد الوطن ؟

*للأسف الشديد تحول أغلب العراق عندي من جغرافيا إلى تاريخ ، ويبدو أن اهتمامي بتاريخه القديم قد جرف حاضره المعاش وحوله إلى تاريخ أيضاً لأني لم أعد أسكن فيه . ما زال الماضي القديم للعراق بحضارات سومر وأكد وبابل وأشور وآرام والسريان والمندائيين هو الذي يجذبني أكثر ، أشعر بتوجس وخوف عندما أدخل إلى تاريخه الأسلامي . أما حاضره فمجزرة حقيقية ، لاأميل إلى النظر فيها باحثا لكني تلمستها شعراً عبر أعمال شعرية هي (موسيقى لهدم البحر ، حية ودرج ، فلم طويل جدا ، أحزان السنة العراقية ) وهذه كتب صدرت ونشرت ، ومازلت أشعر برغبة لتعرية الواقع العراقي
 وكشف شبكة مأساته الداخلية العميقة ،وستظهر في أعمال إبداعية جديدة. العراق يسكن روحي وعقلي ويشرفني أني من هذا البلد العظيم بتاريخه وعقول أهله ومواهبهم .
العراق منجم للمواهب والعقول ، لكنها بعد أن تنضج وتتضح يطردها ويدفنها أحياناً ، ثم تستمر دورة إنتاج مواهب وعقول جديدة ليعيد طردها ودفنها وهكذا... هذه دورة لا تنتهي ، كأن العراق مشيمة خصبة في أوله ثم تنين مفترس في آخره . ولاتعرف لم هو هكذا ؟ لانعرف أية روح تسكنه ليكون هكذا ؟
لم يعد الوطن بالنسبة لي هو المكان الذي ولدت فيه فقط ، إنه المكان الذي يحميني ويمنحني الأمان ويشعرني بإنسانيتي .ولذلك وجدت (هولندا) وطناً لي الآن لأنها وفرت لي هذا وليس لأني أحب تغيير جلدي فأنا باسمي وبمنجزي معروف كعراقي إلى يوم الدين ، ولكن البلاد التي احترمتني وأعطتني حقوقي كإنسان في أكثر الظروف صعوبةً وحرجا عندما كان وطني الأم يطردني ويفترسني وينهب وينهش ولدي ، هذه البلاد هي وطني الآن وسأعتز بها إلى الأبد .
أعتقد أنها فرصة مناسبة لنعيد تعريف (الوطن ) و(المواطنة ) .