التسميات

الأربعاء، 22 يونيو 2011

استثمار ملحمي ليومياتنا



استثمار ملحمي ليومياتنا  
بقلم: باقر صاحب

لعل العمل الشعري (أحزان السنة العراقية)يمثل استثمارا ملحميا لما حل بعراق مابعد 2003، من أعمال عنف وصلت تخوم الحرب الأهلية،أعاقت تحولات مرحلة انتقالية نحوتغيير جذري منشود، مازال فردوسا وليس واقعا.
على صعيد الإبداع ،هناك إحساس بعجز اللغة عن تجاوز غرائبية الواقعي الى الخيالي ، كيفية إعادة إنتاج لحظات متلاطمة بالدماء والعويل والقبور، لحظات مارقة، لن تستطيع الإمساك بها بلورات مخضبة بفقدانات تتضاعف في مرآة الشاعر ساعة تلاحم الذات بالموضوع، كيف هو حال شاعر مثل الماجدي خطف الإرهابيون ابنه مروان ومازال مصيره مجهولا، كيف تصاعدت ذروة السرد الملحمي ،للحظات وساعات وأيام انتظار العودة المفترضة للغائب ، كأنما عودته تجدد الأمل بانتصار الحياة؟ كيف تكون المعالجة الإبداعية لشاعر مثل الماجدي لهكذا حدث ، شاعر غزير مثابر ساع إلى تطوير مستمر لتجربته الشعرية، كل مجموعة قصائد بشكل جديد ، بما يمنع تنميط هذه التجربة .
عمله أحزان السنة العراقية، يبث عنوانه تكثيفا لضراوة متن شعري ملحمي ، عنوان...مفرداته ضامة لتركيب لغوي يشف عن ثلاثة أقانيم أراد المتن تفعليها، مفردة (أحزان)معبرة عن تراجيديا خاصة وعامة، وهي ليست مضافة إلى مفردتين محددتين للزمن والمكان(السنة العراقية)، بل هي متآصرة معهما وخصيصة أزلية فيهما، فالسنة المشار إليها 2006 تمثل ذروة التراجيديا العراقية ، تراجيديا استلاب،عنف ودم ضاربة جذورها في التاريخ، اختزال الماجدي لكل تأريخ الحزن العراقي فيها يمنح سرد الوقائع اليومية لعام كامل بعدا فنتازياً .


عظم المأساة ومواجهتها شعريا خلقا أسلوبا جديدا للماجدي، في هذا الكتاب، شعرنة كل يوم معاينا التقويم- كتابا ممزقا مدمى- انتظارا لولده المجهول المصير، قال في مقدمة الكتاب: ( أنظر الى الروزنامة / كما لوأني أنظر إلى كتاب ممزق / يقطر دما / وإلى شجرة يابسة الأوراق/ واحسرتاه ...
هذه هي أيام السنة العراقية ). ندرس هنا بعض نصوص أحزان الماجدي وأحزان أيامنا لاستحالة قراءة عمل شعري ضخم كهذا ضمن الحيز المتوفر لدينا في ملف عن الشاعر الماجدي .
قلنا إن لحمة السرد ستكون عنصرا رئيسا في كتابة عمل شعري يومي، الماجدي في حومتي الانفعال ومن ثم التفاعل الفكري والشعري مع واقعة خطف ابنه، استدرج كل مافي ذاكرته من معلومات وسرود وأفكار وجدل ساخن بشأن الحاضر العراقي الدامي الملتهب... إلى أين سيؤول مصيره ؟
أعتقد أن (أحزان السنة العراقية) سيعد وثيقة إبداعية –تاريخية،تستنهض جمرات الذاكرة الجمعية من رماد نسيان وقائع مقرفة مخزية يندى لها الجبين الإنساني، مثل ذلك، اقتياد مجهولي المختطفين وقتلهم ببشاعة في ضفاف الانهار، ومن ثم رمي أشلائهم مقطوعة في أحواضها، ما معنى أن نشرب دماء قتلانا وأنهارا حمراء بتغييب زرقتها النقية ،أنهار أسست على ضفتيها حضارات عريقة، يراد لها أن تطمس، تجفيف الزرقة وتشريبنا الماء، كي تصبح جينات أخلافنا دموية أيضا :
(مسحوا(الحجاج بن أرطأة ) مهندس بغداد الأول ورموا برأسه من أعلى أسوارها / وقع رأسه في دجلة وانجرف مع التيار / واستقر في البركة الجانبية؟ أصبح عدد الرؤوس إثني عشرا) هذا الرقم المنوه للاكتمال ،جعله الشاعرا رابطا بين دلالات عديدة في نصه (رؤوس تطفو على دجلةالمؤرخ في 1كانون الثاني) الربط الدلالي عمده سرد واقعة لن نقول جازمين إنها افتراضية، أطفال يلعبون على ضفة نهر ، سقطت كرتهم في بركة جانبية، أرادوا التقاطها ،أصابهم رعب من مشاهدتهم أحد عشر رأسا مقطوعا، هذا يعني أن الماجدي استثمر هذه الواقعة لقول أشياء عديدة معا ...موت البراءة واللعب ، إسقاء غريزة القتل والتدمير عند أطفال هم صناع المستقبل .
إن نصوصا يومية متتالية ، لا بد من بؤر لمتضادات يلاحق الشاعر تلبسها أشكالا مختلفة ، وتجذيرها أبعادا سياسية ،اقتصادية، تاريخية وجغرافية كماهو نص (عيون الذئاب قرب عيون الحملان المؤرخ في 2/كانون الثاني ):
(القطعان الضالة جاءت من الشرق وطعنت دجلة /وجاءت من الغرب وحفرت خاصرة الفرات / جاءت من الشمال ونهشت الجبال/وجاءت من الجنوب وخربت المدن / بستانك ياعراق تحول إلى زريبة)
تتابعا لهذه المتضادات وتأصيلاتها وتمظهراتها ،فإنها تلتبس في نص(لماذا يلبسون حجرا؟المؤرخ في 3/كانون الثاني )بشعرية الضوء والظلام ،يرصد فيها تحولاتنا الغريبة وصراخ حيوانات جريحة في أعماقنا :
(لماذا أجبرونا على لبس الغيوم ؟ لماذا أصبح لون المرآة أزرق / تظهر فينا النجوم مرتعشة سوداء وتتخفى فينا حيوانات جريحة ).
لاشك أن ثنائية مثل الحياة والموت تعد بؤرة رئيسة لصور الماجدي في أحزانه ،أحزان ثكل الحياة لدى الأمهات، ومنهن أم (مروان )،صور الماجدي الموت فاتكا بكل تفاصيل الحياة العراقية :
(جلست على أريكة تنظرُ في الأفق وتترصّدُ أشباحاً تقفزُ/ الوباء يفتك بالناس/ السيوف تلمع والشموع الكبيرة انطفأت بعد حين/ظهرت الأفاعي تتقدم على ذيولها مثل جيش أسود)
يحشد الماجدي في النص(أعيدهم الى رحمك في /4كانون الثاني) على سبيل المثال كل مفردات الموت وصوره ..مفردات مثل الظلام ، خبز أسود، لحم تالف، فاكهة فاسدة، الأشباح ، الأفاعي ، الخفافيش ،بيوض الأفاعي، القبر، جيش أسود. وصور مثل : شجرة الضحك ذبلت وشجرة النوم / أو: السقوف تنث ترابا/ أو: احترقت السفن واحترقت الناس /أو: كسوة سوداء تنزل على البيت المقدس /أو: ثعالب تمرح في البريةحاملة شموعنا/أو: هذا هو الساحل الأبدي لنا: رمل وعظام /أو: سقط موسيقار الشعر في القبر.
صور الموت المتجاورة والمتفاعلة بما يسعى الشاعر إلى اكتساح العجز الشعري عن تجاوز غرائبية الواقع ،يسعى إلى استباق الموت بقول كلمة أخيرة،هذه الصور لا بد أن تستدعي الشاعر إلى وقفات تصوف ووجد إلهي: هو طقس جمعي أن يتجه البشر بأبصارهم وقلوبهم إلى السماء ،ولكن الشاعر يسمو إلى السماء بتشعير الطقس ذاته :
( يا أيها البيت أريد أن أدور حولك مثلما يدور طفلٌ حول بيته /أيها المكان المكسو بالسواد أريد أن أعترف بأخطائي/ المسلحـون يفـســـدون الحِلم/جثث نحو بيت الله تسعى/جثث تعتذر عن عدم الوصول/جثث لم يكن بوسعها السباحة/جثث لم يكن بوسعها الطيران/جثث... جثث)
استباق بين الموت والتوبة، الموت أسرع من اعتراف الناس بخطاياهم في الحياة، فمن يسعى إلى الاعتذار برؤية الشاعر الجثث، يحييها لأجل الاعتذار، ماذا فعلت في حياتها كي تفتك بوباء الموت،وليس الموت الطبيعي بعد حياة حافلة بالجمال والعطاء؟!.


جريدة الصباح/ملف خاص عن خزعل الماجدي
22/06/2011