خاتم العشاق
بقلم :زاهر الجيزاني
1
“ كيف تغنّـون بهـذه الطريقـة؟
لماذا تخرجُ النجوم من أصواتكم؟”
1 - كلما قرأت قصيدة لخزعل الماجدي تكون لدي حافز قوي للبحث عن مصدر الصوت أقصد مصدر جملته الشعرية والشاعرخزعل الماجدي صديق العمر لذلك كتابتي عن شعره مجازفة مرة استمعت اليه-في بيته-وقد قرأ لي ثلاثة دفاتر فيها عدد من القصائد الطويلة منها خزائيل و فيزياء مضادة والياقوتاتولم يكن بيننا كأس جمشيد كان بيننا كأس أبي نؤاس-كان خزعل مستمتعا بالقراءة وأنا أصغي وبقينا الى الفجر كنت أنتقي جملا وكلمات تشكل الزوايا الضرورية لمعمار القصيدة –بدت لي القصيدة (كلا) لا أهمية لها من غيربضعة مفاصل تتألف من بضع كلمات وجمل تعطي للمعمار الشعري( تأثيرا).
قصائد خزعل طويلة وأحيانا طويلة جدا مثل(حية ودرج)والقصيدة الطويلة دائما تتوقف عن النمو في مكان ما وتتحول الى (تراكم) وتظهر سمة الاعادة واضحة ممكن أن أحيل قارئ الشعر الى قصائد طويلة- مثل مفرد بصيغة الجمع لأدونيس وقصيدة-غيوم- لأنسي الحاج –وخزعل كان منتبها لهذه المعضلة لذلك تميز بالالحاح الضاغط على كلماته وجمله كي تتبادل المعاني مع بعضها البعض كي يصل الى مسعاه –ماهو مسعى شعر خزعل الماجدي؟
أحاول أن أحدس ذلك- قلت أحدس-لأن لا أحد على الاطلاق يعرف أسرار شعر الشاعر غير الشاعر نفسه أما بقية التناول والتقييم والقراءة النقدية تدخل في باب (الحدس)أو محاولة الاقتراب من(النص) وهذا يفسر عدد القراءات النقدية لقصيدة واحدة، بل تبقى القصيدة تتحدى النقاد على مر العصور رغم عشرات بل مئات الشروح والتأويلات لها- من أين يصدر الشعر؟ من أية منطقة يستخرج الشاعر خزعل هذه القصائد؟مصدر الشعر( الجسد) وليس الوحي بمعنى أن الشعر ينبجس من الجسد مثلما ينبجس الماء من الينبوع ثم يجري منحدرا ويختلط بالتراب والصخور وتسقط عليه اشعة الشمس ورائحة الهواء – هناك ثلاث مناطق في الجسد يصدر منها الدافع الى الكلام وكأنها في النهاية هي التي حكت وليست الذات الحاكية وفقا لخارطة الجسد هناك منطقة (تحت السرة)ومنطقة (الصدر)ومنطقة(الرأس) تحت السرة المرجل الذي تتكون فيه اللغة الايروتيكية(لغة الشهوة) ومنطقة القلب يتكون فيها الرومانس(لغة الحب)ومنطقة الرأس تتكون فيها الأفكار(لغة الحكم والامثال والمعرفة)
2 - تعرفت على خزعل الماجدي في اتحاد الادباء في بداية السبعينيات-شابا وسيما قميصه مفتوح وشعره طويل وفي يده خاتم،ومعه كيس محشو بالكتب-روايات وشعر-فرح بنفسه وبالحياة كان مملوءا بالأمل-وكل حديثه ينصب على الجمال والفتنة،بمعنى آخر عن( المرأة) يعتقد خزعل أن الحياة وجدت من أجل المرأة-فهي النقطة الأصلية في مركز الدائرة ومنها تتفرع شبكة الوجود،المعارف والعواطف والأعمال والرقي كلها من أجل المرأة –الذين قرأوا شعر خزعل جيدا خرجوا بهذا الانطباع أن الشاعر عندما يريد أن يكتب قصيدته ينزل الى العالم السفلي-مرجله اللغوي يقع ( تحت السرة) والمرأةالتي يكتب خزعل من أجلها قصائده أن تكون محاطة بالطقوس فهي لا تشبه امرأة نزار قباني ولا تشبه –لارا-البياتي –قريبة الشبه من (أنانا السومرية) التي أمرها حارس بوابة الجحيم أن تحل حزامها وتنزع قلائدها الذهبية وثيابها وحتى مشد صدرها ثم تقف عارية وتبدأ تلاوة الأذكار والأناشيد على ذلك الجسد العاري.
استخدم خزعل في شعره كل عناصر (الرقية) الشعبية الزعفران والكاغد –الياقوت والنقش -الشذر الازرق والحرف الرمزي-يقول في مقابلة معه :«استهوتني كتب العرافين والسحر والرقي والأسطورة، فلجأت الى تحريرالسحر من أبعاده الغيبية ما أسهم في تشكيل،خصوصيتي الشعرية»
يختار المرأة بعد أن يثبت صورتها في اطار معقد من الطقوس وكأنه ذاهب الى كاهنة معبد أقرأ معي هذا المقطع:
«هبني ادخل عليك
فسأبل فمك بكلام غريب
وسأطعمك الحروف وأشرق في لسانك
ما عليك سوى فتح بابي
ونهب عقلي
وخطف سحابي”
ولا يستعير جملة من كتب السحر..هبني أدخل عليك
ثم يتلو عليها كلاما غريبا ويبلل لسانه بلسانها وأثناء التطعيم بالفم يلقمها حروفا ثم تأتي هذه الجملة الشعرية جملته هو(وأشرق في لسانك) هذه الجملة تمثل حجر الزاوية الذي يعطي لهذه القطعة قيمتها الشعرية فهو هنا ليس الساحر انما المسحور كل هذه العملية الطقوسية التي قام بها من أجل أن يمارس السحر على نفسه وليس عليها وبعد نهاية التعزيم يشرق ويموت بين يديها فتفتح بابه وتنهب عقله وتخطف سحابه في معظم ديوانه خزائيل الذي أطلق عليه تسمية الشعر الغنوصي وأنا أختلف معه على التسمية-فهو في نظري شاعرلاغنوصي ضد الغنوصية بالكامل-وقال أيضا في مقابلة معه شعره متحرر مما هو أرضي ويتطلع الى السمو الروحي وأيضا أختلف معه فهو شاعر أرضي وتحديدا شاعر من العالم السفلي-لكن ما يهمني هنا أن شعره كله عن المرأة وأن امرأته لا تشبه المرأة الرومانسية القديمة على شاكلة (ليلى ) ولا مرأة المدينة ولا حتى المرأة التي تأخذ صورة الأم والزوجة والحبيبة عند السياب –المرأة لديه غير واضحة الصورة فهي وسط رائحة الزعفران ودخان المباخر وصليل أحجارها يقف أمامها بكامل عدته السحرية ويوهمنا سيصرعها لكنه يستخدم هذه الوسائل كلها ضد نفسه فيسقط صريعا أمامها أغلب قصائد-خزائيل فيها وشاية.
برقية سريعة تقول للقارئ أن الشاعر يحب نفسه والمرأة تمثيل رمزي لنفس الشاعر فأغانيه وأناشيده
ومراثيه ورصعات الغزل التي نصادفها مبثوثة هنا وهناك كلها موجهة الى ذات الشاعر وليست هناك
امرأة خارج كينونته تحظى بكل هذا الجو الغريب واللافت الذي يحرص على تقديمه للقارئ بهذه
الفخامة والروعة.
3 - أعتقد أن خزعل الماجدي أول من كتب قصائد ايروتيكية لم يسبقه أحد سواء في العراق أو في العالم العربي
فهو رائد هذا النمط من الشعر-وكما قلت أن لغة خزعل الشعرية تنبجس من ينبوع يقع تحت السرة
لذلك لن تعثر بسهولة على جمل شعرية فيها-فكرة-أو معارف أو رموز تعبر عن تعقيد ثقافي ما-أو حتى
وقائع تأريخية أو أحداث سياسية-لغته محبوكة حبكا بالوجد العاطفي وكأنه أحيانا يصرخ أو يتوسل
بلغة المحبين بنبرة شهوانية مظلمة
خزعل يكره السياسة ولم يخض معي طوال صداقتنا الحميمة والطويلة في أي حديث سياسي كأنه نذر
نفسه للتغني بالجمال بينما كان الواقع اليومي يعصف بنا من كل جهة ولم يتملق أو ينحن كأنه فعلا
أوقف نفسه بكل مهاراتها لمشروع تجديد الشعر وتطوير تقنياته
ذلك الشاب الوسيم المفتون بنفسه بشعره الطويل وقميصه المفتوح وخاتمه الفضي التقيته ذات مساء في أوائل السبعينيات في اتحاد الادباء كان فرحا بنفسه وبالحياة حوله وكنت أنا آنذاك شابا كئيبا لكن كلانا التقى على ضرورة تجديد الشعر ورفض الخضوع للحاكم المستبد .
جريدة "الصباح" /ملف خاص عن خزعل الماجدي
22/06/2011