الماجدي شاعراً مسرحياً
بقلم : د. كريم شغيدل عرفته مطلع الثمانينيات شاعراً يفلسف الشعر وينأى به عبر موروثات مهملة من السحر والعبادات القديمة، ويشعرن الفلسفة فيغادر منطقياتها عبر المتخيل والغنوصيات والارتماس بأنوار الإشراق والتصوف، مخلصاً للشعر حد الاعتقاد بأسطورية الشاعر الخلاق ونبوته ورسوليته منقذاً لما تبقى من الكون، مما لم تمسه نار القبح ولم يغرقه طوفان البشاعة.
هكذا يعتقد أن الشاعر ربان سفينة لما بقي من جمال، ببعض هذه الرؤى راح يحفر بين تضاريس اللغة لإيقاظ دلمون، الجنة المنسية التي كان ينصت لحفيف شجرها وهدير أنهارها، وببعض هذه الرؤى عاد باسمه إلى جذره السامي أو العبري، كتمثل رؤيوي لأسماء الأنبياء أو الملائكة وإسرائيليات الديانات الإبراهيمية، مستعيراً إشراقة رامبو “ استيقظ النحاس فوجد نفسه بوقاً” عتبة ثانية لسفر خزائيل. هكذا عرفته متوحداً ومتلبساً شعراً. لذلك كان يأبى أن يهتم بما ينافس روح الشعر الطليق في وجدانه وضميره ووعيه، الجامح بين تلافيف مخيلته. كان خزعل شعراً كله، أقرب ما يكون كائناً مخلوقاً من شعر، لا يتكلم إلا عن الشعر ولا يجادل إلا بالشعر ولا يتنفس إلا شعراً، ولا يتخيل ارتقاءً إلا بالشعر، ولا حياة ولا موت بسوى الشعر، كان الشعر القاعدة وبقية الوجود هي الاستثناء.
خاض بكل أصناف الشعر وأساليبه بشرط التحديث وتجليات الرائي، من قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر، ومن الومضة إلى النص المفتوح، ومن التغريب اللغوي الغامض والمتعالي إلى الشعبي، من يقظة دلمون وخزائيل إلى فيزياء مضادة وعكازة رامبو وحية ودرج. ذات مغلقة تماماً على الشعر، بوصفه فلسفة ومعتقداً وحياة وعالما من كلمات وجمل ونصوص. لم يكن الشعر في ذهنية خزعل مجرد قصيدة تنال الإعجاب أو تمر مرور الكرام، بل هو إشكاليات في الفن والحياة وأسئلة الوجود العميق في التأريخ(الماضي والحاضر والمستقبل) وولادات متلاحقة في وجود متجاوز لمواقيت الزمن وفيزيائية الكون. فحين يتحدث عن الشعر كأنه يريد القول إن الشعر برزخ جمالي عائم على مساحة الطبيعة وما ورائها، الوجود وما بعده، برزخ تتماهى فيه الحدود بين الجنة والجحيم، بين الحياة والموت، بين العقل والجنون، بين الواقع والخيال. لذلك لم يكن لديه ميل لفن آخر سوى الشعر، ولبعض ما شغف به من تشكيل وغناء وموسيقى ونهم للقراءة والحفر في الجماليات وألواح الديانات القديمة لاحقاً،.ويتذكر جيداً كيف كان يرى المسرح فناً جماعياً لا يرقى لنبوءات الشاعر أو تجليات المخيلة وعظمة الذات الشاعرة وتفردها.فالفن إنجاز فردي خالص، وهذا الشرط يسقط في المسرح الذي يتحول فيه الفن إلى عمل جماعي تدخل فيه مختلف التقنيات وتتضاءل على عتباته التجليات. هكذا كان يتجنب الحديث عن المسرح، لكن فجأة تتفتح ذهنية خزعل ومخيلته المكتنزة عن نصوص مسرحية عميقة الرؤية، ينتقل فيها من الغنائية إلى الدرامية، من التجلي الذاتي إلى الصراع، فيضيف إلى رصيد المسرح العراقي عروضاً رسخت نصوصها نمطاً جديداً في الكتابة المسرحية، لا تقل أهمية عن نصوصه الشعرية. أعاد صياغة هملت شكسبير بلا هملت، برؤية لم تخطر على بال، وبنسيج درامي مختلف ومحكم، وبلغة تعبيرية تنطوي على حس درامي من دون التفريط بجماليات اللغة وإيحاءاتها. وهكذا يقف خزعل مغموراً بدهشة تحويل النص الأدبي إلى عرض جمالي متعدد الدلالات ومتفجر الصور، وتتحول الشخصيات الافتراضية التي خلقها من اللغة وتنامت أبعادها عبر الحوار والحدث إلى شخصيات مجسدة تجسيداً تعبيرياً، تتكلم وتتحرك وتتنفس وتتصارع وتنتصر وتنهزم وتفرح وتحزن وتحيا وتموت، ويتقمص الجمهور انفعالاتها، بعدما تقمصها ممثلون فحلت أرواحها بأجسادهم. أصبح النص الأدبي واقعة ثقافية من لحم ودم. وهكذا تحت هذا الهاجس كما أعتقد اقتنع خزعل من أن المسرح كما السينما فن وسطي يحول النخبوي إلى جماهيري، لكنه يبقى فناً رفيعاً. وهكذا توفرت الفرصة لإنجاز نصوص قدمت على خشبات المسرح العراقي في عروض مهمة وعلى أيدي مخرجين أفذاذ من اتجاهات مختلفة، كعزلة في الكرستال وحفلة الماس اللتين أخرجهما المبدع صلاح القصب بأسلوبه المعروف في مسرح الصورة، وقد شكل مع خزعل من خلال ذلك ثنائياً في التصورات والرؤى والتنظير للتجليات الصورية في منظومة العرض المسرحي، وسيدرا التي فازت كأفضل نص في مهرجان قرطاج الدولي وكانت من إخراج الفنان فاضل خليل، وهملت بلا هملت التي التي اجترح رؤية عرضها الفنان ناجي عبد الأمير الذي تركت أعماله بصمة واضحة في خريطة المسرح العراقي، ومسرحيات قصيرة جداً التي قدم خمساً منها جبار المشهداني في أحد مهرجانات منتدى المسرح. وكان من المؤمل أن يقدم له المخرج الكبير صلاح القصب نصه (عكازة رامبو) الذي بني على رسائل رامبو أواخر التسعينيات، وفي جعبته العديد من النصوص التي نأمل أن تتاح لها الفرصة ليواصل مشواره المسرحي الذي ابتدأه متأخراً بعدته الشعرية، فحظي بكنوز أضافت ملمحاً إلى هوية المسرح العراقي.
جريدة "الصباح" /ملف خاص عن خزعل الماجدي
22/06/2011