خزعل الماجدي: الشعر هو ابن الحرية البار
حاوره أسامة الشحماني: في مشاركته المتميزة بمهرجان المتنبي الشعري الثامن (الشعر والمسرح)، المهرجان السنوي الذي ينظمه المركز الثقافي العربي السويسري، كانت لنا مع الشاعر والمسرحي العراقي د. خزعل الماجدي فرصة الحوار في مدينة زيورخ / قاعة المركز الثقافي العربي السويسري. وقد سجل أجزاء من هذا الحوار الفنان التشكيلي العراقي سلام الشيخ، مسؤول القسم العربي في راديو لورا، وبثها مع مقاطع شعرية من نصوص الماجدي، قرأها الشاعر في أماسي المهرجان.
- خزعل الماجدي قامة شعرية غزيرة العطاء، تجربة مسرحية مختلفة المعالم، عقل أكاديمي وباحث ممنهج ما انفك يجوب حقول فكر و إبداع متعددة يندر وجودها مجتمعة في مخيلة شاعر. د.خزعل، أيٌ هذه الإنشغالات المعرفية أقرب إليك؟
الشعر هو مركز إهتماماتي وحول الشعر تدور هذه الحقول التي تساهم في تخصيب الشعر ويساهم الشعر في تخصيبها، وأنا لولا الشعر لأنفرط عقدي بسهولة لأنك تعرف إن الإهتمامات التي إنشغل بها شائكة ومتعددة ولكنَّ الشعر كان دائماً يمسك بهذا التعدد ويعطيه لوناً وسمة خاصة، فالشعر هو الأساس والشعر كما أراه وكما أفهمه ليس بالمعنى الحرفي الشائع وإلا لما ذهبت لهذه المناطق، الشعر عندي قضية أخرى أكبر من التوصيف التقليدي لها وأبعد من التوصيف الذي يمارس الآن في الكتابة الشعرية العربية، أبعد من هذا بكثير.
- الشعر إذاً هو النقطة المركزية التي يتمحور حولها الماجدي، أو التي تستقطب إليها دائرة معارفه لتشكل منطقته الأصيلة، ولا أريد هنا سبر أعماق ماهية الشعر لما في ذلك من سعة وشمول، ولكن أقول ماذا تعني مفردة شعر بالنسبة لك؟
المفهوم التقليدي للشعر في الزمن القديم وحتى في الزمن المعاصر تقريباً هو جزء من الأدب وأنا ضد هذه الفكرة كلياً، أنا لا أقول إن الشعر جزءٌ من الأدب، الشعر كيان قائمٌ بذاته ربما يقع الأدب الى جواره أو ربما في منطقة مقابلة، الشعر نظامٌ معرفي روحي و جمالي متكامل ولكنه وللأسف لم يكتشف، فنحن مازلنا بصدد حفريات قد تؤدي فيما بعد كما أراها الى الوصول الى هذه النقطة، وسأضربُ لك أمثلة في هذا المجال، كان الشعر تابعاً للدين يوماً ما كان الشعر والشاعر جزءا يخدم الدين ويبرر للدين الكثير من الأمور، من الأناشيد الى التراتيل حتى الأسطورة هي جزء من الدين إذ لا يوجد دين في الأرض من دون إسطورة، والأسطورة كانت تؤدى في الغالب شعراً، فالشعر كان دائماً وسيلة من وسائل الدين ثمَّ أصبح الشعر فيما بعد تابعاً للسياسة ولذلك ترى الملوك والخلفاء والسلاطين قد جمَّلوا به حياتهم، جعلوه جزءا من مجالسهم، والشعراء إنسحبوا الى هذا الشرك الخطير جداً وظلَّ الشعر من وجهة نظري غير مكتشف الى أن أتى العصر الحديث ليضع الشعر في خطأ جديدٍ إذ جعله جرءاً من الأدب فأصبح الشعر والنقد والرواية والقصة القصيرة والنص المسرحي كلها منظومة واحدة وهنا وقع الخطأ. أنا في محاولتي أريد أن أخلص الشعر من أن يكون تابعاً لهذه الأنظمة التي لا تستوعب الشعر لأنه الروح المحركة لكل هذه الأنظمة ولكن هذا يجري بطريقة خفية وسرية أحياناً لا نراها بوضوح، حتى الشعراء لا يروها بوضوح كما هي لأن الأمور تلتبس في هذه المنطقة. محاولتي مع الشعر هي أن أخلصه من شرك الدين، السياسة، الأدب.
- طيب، الشعر إذاً مرَّ بكل هذه التحولات، من الفعل المقدس، وكيف كان الشاعر في عصور خلت يُعامل معاملة الشخصية الدينية المنشدة في معبد ما، ثمَّ تدرجتْ بالشعر سلسلة العُرى لتصل عروة السياسة، التي هي والى حدٍ ما ليست منفصلة تماماً في التاريخ عن البعد الديني، ليقرَ الشعر في العصر الحديث الى الإستقرار في خانة الأدب، ألا ترى الآن أنك، برفض ما استقر الشعر فيه في العصر الحديث من قاعدة نظرية، تريد العودة به الى مفهوم القدسية، أي الى منطقة كنت قد رفضتها سلفاً، هل الشعر فعل مقدس بالنسبة للماجدي، ولمَ؟
أنت نصبت لي شركا جديدا في إطروحتك هذه، وهذا الشرك يكمن في أنك وضعت الشعر في المقدس وهو جوهر الديانات، أنا لا أنظر للشعر بوصفه فعلا مقدساً، لماذا؟ لأن المقدس مخيف والشعر إبن الحرية البار، الشعر هو الحرية وليس الخوف ولذلك أنا لا أريد أن أجعل من الشعر فعلاً مقدساً جديداً بالعكس بالضبط أنا أريد أن أجعل منه حرية تتحرر به أو من خلاله أرواحنا وعقولنا وحتى أجسادنا ومعرفتنا، الشعر يفعل هذا الفعل العظيم في الحقول التي يمخرها أو يجوس فيها يحرر كل التابوهات، إذاً الشعر ليس مقدساً ولا يذهب الى هذه المنطقة وأنا أريد أن أخلصه من المقدس ومن النفعي السياسي وأريد أن أخلصه من السطح الأدبي الذي تتناوب عليه أنواع الأدب، تخيل إنني وضعتُ نظاما للشعر ووجدته بالنسبة لي جنساً وليس نوعاً كما هو الحال في الأدب و أنواعه: القصة والرواية والنقد وغيرها، الشعر جنس أدبي و أنواعه يمكن أن نتحدث بها، على مستوى الشكل كقصائد النظم ـ وهنا أقول إن القصيدة هي نوع من أنواع الشعر وليس كله، هي شكل يكاد يكون حديثاً نسبياً بالنسبة للشعر ـ وهناك النص المفتوح، والملحمة كنوع عظيم من أنواع الشعر، وكذا الدراما الشعرية. أقول لك شيئاً وقد لا تصدق هذا النوع من الكلام، هناك العشرات لا بل المئات من الفنون الشعرية داخل الفنون الشعبية البسيطة التي يملكها كل شعب، أنواع غزيرة من الشعر وخذ الشعر الشعبي العراقي، بين الدارمي والأبوذية والزهيري وغيرها، إنه تركيب عجيب. وإذا أتينا الى الشعر الحديث فقد أنجز أشياء عظيمة جداً منها قصيدة النثر والنص المفتوح وستأتي أنواع أخرى. أنا أميل فعلاً الى أن يكون الشعر جنساً قائماً بحد ذاته وهذا الجنس يتضمن أنواع تاريخية وأخرى حديثة وحاولت جهد الإمكان في كتابي (العقل الشعري) أن أعطي لهذا المفهوم بعداً تنظيرياً.
- هل سينعكس هذا بالضرورة على مفهوم الريادة في الشعر الحديث؟ بمعنى ـ وعلى وفق ما حددته من هوية مفهوماتية للشعر ـ إن مفهوم الريادة ستكون له دلالة أخرى غير تلك التي تحدث عنها النقد على إختلاف مدارسه، أي إن تخليص الشعر من تبعاته التي أقحم فيها هو الريادة بالنسبة للماجدي، والتي لما تحدث بعد، على العكس منة مفهوم الريادة على مستويات الشكل والمضمون، والتي كانت حدثت؟
هذه إنتباهة ممتازة لأن هذا الكلام مؤكد، والحقيقة إن مفهومنا للشعر يجب أن يتغير، لأن المفهوم الشعبي للشعر هو الشيء الجميل الذي نتداوله و يأتي على شكل حكمة أو مثل أحياناً يسلينا أو يضحكنا، والمفهوم الآخر المقابل وضعه الأدب، وأنا في واحد من أعمالي الشعرية وضعتُ مقدمة صنفت فيها الشعراء الى ثلاثة:
1. الشاعر الفطري البسيط.
2. الشاعر حين ينتج أدباً.
3. الشاعر عندما يكون عارفاً أو بشكل أدق عرفانياً، وأسميه الشاعر الغنوصي أو العرفاني، وهنا ينفصل الشاعر عن الأديب كلياً ليكون عرفانياً كبيراً، وليس بالضرورة أن يكون هذا العرفاني ـ وهذا رد على ملاحظة سابقة لك ـ أن يكون جوهره مقدساً، ربما هو جوهرٌ آخر وهذا الجوهر علينا أن نشتغل عليه ونوضحه مع الزمن وأتمنى أن يكون هناك وقت لكي أظهر شغلي في هذا المجال، فلا أريد الكلام عن كل شيء في هذه العجالة.
- وماذا عن العراق القديم أو المثيولوجيا والتاريخ الرافدي كيف إنعكس كل هذا الإرث على منهجك البحثي والشعري؟
أنا منذ زمن بعيد يتعدى مرحلة البحث المنظم، ربما يعود الى السبعينيات، وأنا مما يسمى بجيل السبعينيات في العراق، كنت مهتماً كثيراً بتاريخ حضارة وادي الرافدين وتحديداً الأساطير إذ إعتبرتها من الكنوز البشرية الغالية والنفيسة جداً لسبب بسيط وهو لأنها مثيولوجيا الأصول فهي تشكل شيئاً لا نظير له على الإطلاق عند الشعوب القديمة، لماذا؟ في البداية كنت متصلاً الى حدٍ ما ولا أقول مطلعاً على المثيولوجيا الإغريقية الشائعة كما تعرف في الكتب التي عرفناها أولاً، كنت أراها شيئاً جميلاً ولكن الهزة العظيمة التي حدثت لي هي عندما إطلعت على تراث بلدي، عندما عرفت إن المثيولوجيا السومرية ثمَّ البابلية والآرامية ثمَّ المندائية هي كنوز لا يتخيلها العقل، وسأقول لك شيئاً أرجوك أن تتذكره: المثيولوجيا الإغريقية والرومانية كتبها شعراء فيما بعد مثل هوميروس و فرجيل و أوفيد هؤلاء كتبوا المثيولوجيا عبر الإلياذة والأوديسة والإنيادة عند فرجيل، ونحن إعتبرناها مسلمة، و هكذا طبعا المسرحيات التي كتبها إسخليوس ويوربيدس قدمت شيئاً كبيراً من المثيولوجيا، إذاً الشعراء كتبوا المثيولوجيا الإغريقية. أما المثيولوجيا العراقية القديمة لم يقدمها الشعراء أو الأدباء إنما قدمتها الشعوب. كتبها الكهنة، نعم لا شك في ذلك، ولكنها ليس لها مؤلف، إنها أشبه بالماء المقطر الذي نضح من عقول وأجساد وأرواح هائمة وعظيمة ظلت تحفر لآلآف السنين لكي تنتج لنا هذه الخلاصة الطيبة، هذا المصل الهائل النقي الذي نشم رائحة التاريخ به، بينما المثيولوجيا الإغريقية كتبها أديب مثلنا ولذا فهي مليئة بالمجازات والأخيلة والصور المفبركة وهذا بالنسبة لي شيء مختلف كلياً ولذا فأنا حين أقرأ المثيولوجيا الإغريقية وكأني أقرأ لأديب إسمه جيمس جويس أو هيرمان هيسه، ولكني حين أقرأ المثيولوجيا السومرية أشعر أنني أقرأ رهبة روح شعب كامل ليس له مؤلف، أقرأ نضحاً من أرواح الناس من عباداتهم العميقة و من طقوسهم المخلصة، وقد دونها الكهنة على إنهم وسيلة للتدوين وهم ليسوا مؤلفين وهذا هو الفرق الذي فسر لي فيما بعد، لماذا كنوز وادي الرافدين هي الأطيب مذاقاً والأجمل والأرقى من الكنوز الإغريقية، هذه هي المفارقة، ولاحظ إن كل كنوز المناطق الأخرى حتى وادي النيل هي ليست بنضارة كنوز الرافدين مطلقاً، الكنوز التي ظهرت في الصين والهند أبداً ليست هكذا، لأن الكنوز الرافدية فيها نبض الناس، أرواحهم وعقولهم العابدة لسنوات طويلة جداً. حين إكتشفت هذه الكنوز أصبحتُ أمام خيارين: إما أن أعمل لها كولاجات مضحكة وبالتالي تصبح مثل خياطة مكشوفة الخيط وهنا لن يكون هناك سوى ترقيع للأشياء، وهذا وللأسف الشديد ما فعله أغلب الشعراء حين أخذوا اسماً أو موضوعة أو باعثاً إسطورياً وأدخلوه في قصائدهم، و ربما كنت قد إرتكبت حماقة كهذه في البداية ولكني بعد ذلك أدركت الخطأ الشنيع الذي كدت أن أنحدر فيه، أدركتُ أنَّ الطريقة الممتازة والرائعة لإدخال الأساطير أو لوجودها في الشعر والمسرح هو أن أتشرب أنا بروح الإسطورة، أتركها تتشرب في داخلي ثمَّ يخرج نضحها في النصوص، أي إنها تخرج بطريقة عفوية على شكل شحنات وليس على شكل كولاجات فالعبرة ليست في ذكر عشتار أو تموز، وليست في ذكر أن هناك عالم سفلي وهناك آلهة للطاعون والأوبئة والخصب، ليست هنا الغاية ـ وقد فعلها شعراء كبار في العراق بالمناسبة ـ لأن هذه الطريقة تفسد الموضوع. أو أن أترك روحي تتشرب بروح الإسطورة فإن هذه الروح ستقول، ويقيناً ستتسرب الى النص خيوطٌ وشحنات خفية تستبطن الإسطورة، وهذا ما فعلت ْ. - دعني أنتقل بك الى المسرح من زاوية إعادة هضم الإسطورة لتجديد بزوغها في النص الشعري، كما تفضلتْ، وهنا أود أن أسأل عن طبيعة بزوغها في نصك المسرحي، ألا ترى إنَّ نصاً مسرحياً بمستوى (حفلة الماس) والتي رأيتها أنا في بغداد في حينها، هو من النصوص الصادمة في تكوينها والتي قد تشكل غرابة عند المتلقي غير النخبوي؟
موضوع الإسطورة داخل المسرح ولنقل أيضاً الإسطورة والشعر داخل المسرح موضوع شائك ومعقد وله آليات ليست بسيطة وإن بسطناها نقع في مشكلة لأننا عندما نعرض ملحمة كلكامش أو إسطورة الخليقة على المسرح كأننا لم نفعل شيء، وكأننا مسرحنا الإسطورة وعرفناها، وكأننا نريد التعريف بها كأي فعل دعائي، و ما الذي إستفدناه إذاً في صياغة المسرح الحديث؟ المشكلة هي ذاتها في العلاقة بين الإسطورة و الشعر، أنا أرى إن هناك إمكانية لإعطاء شحنة الإسطورة داخل المسرح بطريقة أخرى جديدة ومختلفة، ربما نشكل المضمون الإسطوري والمضمون الشعري روحاً خفية روحاً منتفضة داخل العمل المسرحي، وعلينا ألا نظهر ما هو خشن شعرياً أو إسطورياً داخل المسرح لأننا سنربك المتلقي سنجبره على أن يعترف لنا شكلياً فيقول لنا: نعم أنا شعرت بالإسطورة. على إن هذا ليس هو المطلوب، المطلوب هو أن تذوب الأسطورة والشعر داخل المسرح، لأن المسرح في الأخير يلزمنا بالحفاظ على هويته كمسرح، كجنس مختلف عن الشعر والإسطورة ولذا كنت أقول دائماً على الشاعر حين يذهب الى المسرح أن يخلع نعليه ويدخل المسرح، لأن عليه أن يحترم المسرح ولا يذهب إليه وكأنه متكبرٌ على المسرح، عليه أن يذهب إليه بمنتهى التواضع خافياً ما يشتغل به من أدوات، أي لا يقول أني ذاهب للمسرح لأثوره بهذه الأدوات الصارخة، أن يعطي المسرح نفساً شعرياً وإسطورياً أكثر مما أن ينظم المسرح شعراً، أو أن ينتج المسرح إسطورة، وهذا ما يرتبط بالكثير من الأعمال التي أنتجتها في محاولة لإنعاش الروح المسرحية التي ربما تكسد أو تسترخي أحياناً.
الشعر والإسطورة وسائل ممتازة لحفز وإستنهاض المسرح من جديد، وللأسف الشديد النموذج المعروف لإستعمال الشعر داخل المسرح نموذج غير ناجح ـ أنا أتحدث الآن عن الشعر العربي فما قدمه أحمد شوقي بالكثير من النجاح على ما يبدو في العشرينيات أو الثلاثينيات من القرن الماضي، وربما ما زالت تنتج لحد الآن أشياء من هذا القبيل، هو نموذج غير ناجح وقد أصبح محرجاً، لأنك حين تشاهد (قيس وليلى،روميو وجولييت،كيلوباترا) على المسرح تشاهد نظماً شعرياً لا غير، وقد لا تحتمله الذائقة أحياناً، ولذا توقف المسرح الشعري التقليدي عن النمو والإستمرار لأن هناك معوقاً إسمه النظم داخل المسرح، إذاً ماذا نفعل نحن المحبين للمسرح؟ أنا أعتقد أن هناك حلولاً وهذه الحلول تقع في أن نملك بصيرة ثاقبة وممتازة لسبر أغوار المشكلة ونستفيد من الثورة التي أحدثتها الأنواع الشعرية، كقصيدة النثر والنص المفتوح إذ من الممكن جداً أن يحدث هذا في المسرح أيضاً، فلم لا نقدم مسرحاً بمضمون شعري وليس بنظم شعري، بصورة ولغة شعرية، إن هناك حلولاً كثيرة ولكن علينا أن نحذر الإقحام لأنه سيخرب كل شيء لاسيما وإن المشاهد لحظة مشاهدة المسرحية يتحول الى كائن حساس جداً حيث يعيش الطقس المسرحي بمجرد إطفاء الإنارة وتركيز الضوء على الخشبة، يتحول من إنسان عادي يمشي في الشارع يأكل ويشرب الى إنسان إبن طقس وجو خاص، على إن هذا الطقس ليس دينياً وإنما هو طقس دنيوي جمالي، وهنا يقع السؤال: كيف ندخل الى هذا الطقس الجمالي شعراً وإسطورة بشفافية فنية تنعش هذا الراكد في المسرح؟ وهذه مشكلة لا أريد الحديث عنها الآن لأني لا أستطيع التعبير عنها، ولكني حاولت جهد الإمكان من خلال أعمالي المسرحية أن أقدم جهداً من هذا النوع وربما أكون قد نجحت أو أخفقت. -ولكن هذا الشاعر الذي تدعوه أو تحرضه على الدخول الى عوالم المسرح، هل يحتاج الى مخرج من نوع أو طراز خاص؟ لقد عمل الماجدي مع أساتذة كبار مثل صلاح القصب وفاضل خليل وغيرهم فهل هناك مخرج بميزات مختلفة هو الوحيد القادر على تقديم ذلك النص المختلف على خشبة المسرح؟
بالضبط وهذه إشارة بمنتهى الذكاء، بالتأكيد لن يتمكن من أن ينفذ هذا الموضوع إلا مخرج من طراز خاص لأن المخرج الذي يكون على دراية بعلاقة الشعر بالمسرح ستستجيب روحه لهذه الأشياء وستحفزه على إنتاج مسرح غير تقليدي، وربما أذهب بعيداً وأقول لك لابد لهذا المخرج من أن يحب الشعر أو حتى الشاعر، وهذه هي طبيعة علاقتي بصلاح القصب، فهو صديقي لسنوات طويلة جداً وكان يحرضني دائماً على الكتابة للمسرح، وكنت أرفض لسبب بسيط هو إني أخشى المسرح، أهابه، أدخله مرتجفاً ولذا لم أرد أن أدخل لهذا الطقس وقد أفسده أو قد أرتكب حماقة أنا في غنى عنها. صلاح القصب بحكم ما يملكه من طاقة جمالية خلاقة وعقل نظيف منظم هو الذي كسر حاجز الخوف عندي وأدخلني الى عالم المسرح وبدأتُ بعد ذلك أقول: يا إلهي لو لم أفعل هذا ما كانت حياتي الثقافية أو الأدبية فعلاً من دون شغلي المسرحي؟! ستكون خسارتي كبيرة، ولذلك أنا معك تماماً في أن يكون المخرج من طراز خاص متميز، مخرج يصلح لأن يشتغل بالروح الشعرية والإسطورية داخل المسرح.
- د. خزعل هل ترى أنَّ المسرح العراقي بخير، أو ما زال بخير على الرغم من كل ما مر به؟
المسرح العراقي هو من أغنى المسارح العربية يحتفظ بمكانة مرموقة جداً، ولا حرج أن أضعه في مقدمة المسارح العربية، على إنه وللأسف الشديد تعرض الى مشكلات كلها ترتبط بالسياسة والمال والتمويل، وأنت تعرف إن العرض المسرحي الآن يتم عادة في وقت متأخر وله طقوسه وناسه وهو جزء من التحضر، وكل هذا لا وجود له في العراق الآن فالمسرحيون هناك يتعرضون لمشكلات هائلة كثيرة جداً ويلجأون لوسائل بمنتهى الصعوبة للإستمرار في العمل، أنت تذكر حين كان المسرح العراقي ينمو ويتطور ويتخذ له هويته المميزة مستفيداً من الوسائل التقنية الحديثة ظهرت لنا حينها قصة مبتذلة إسمها المسرح التجاري الذي هبط بالمسرح الى القاع وشوه صورة المسرح في العراق، وهذا كما تعرف أنت بسبب وضع النظام السابق وسلسلة الحروب التي أراد فيها أن تكون هناك موازنة وترفيه، وكأن المسرح هو نكات وضحك وترفيه، وهذا طبعاً غير صحيح.
المسرحيون العراقيون هم الوحيدون الفقراء جداً الذين ليست لهم أية حرية أو رفاهية مادية، ترى كل واحدٍ منهم وقد عمل في المسرح زهاء ثلاثين سنة ولا يملك حتى بيت يأويه أو حتى ما يعينه على حياته، وهذه جريمة كبرى بحق هؤلاء المبدعين الرائعين، أنا أعتقد جازماً إن الجمرة المتوقدة في المسرح العراقي مازالت موجودة ولا سيما بيد الشباب فالجيل السابق يشكر على ما قدمه من أشياء عظيمة ولكنه لا يمكن أن يواكب الآن ما يحدث في المسرح العالمي، الشباب في العراق يمتلكون هذه الجمرة بأيديهم وهم في أي لحظة قادرون على أن يعيدوا المسرح العراقي الى نضارته، على أن يأججوا حرائق جديدة في المسرح العراقي والعربي ونحن ننتظر منهم هذا مع الزمن فقد رأيتهم في العراق، إنهم أجيال كاملة شبان بأعمار العشرين ينهمكون بجدل المسرح وهؤلاء ثروة لابد أن نحافظ عليها ونجعل من كل واحد فيها مدرسة كاملة. أنا أعرف عمق مواهب العراقيين لأني رأيتُ مواهب غيرهم كم هي بسيطة وعادية ولا أهمية لها كالموهبة العراقية التي تسطع مثل الشمس لأنها نادرة ومتميزة، نعم يا أخي لدينا مواهب واضحة قوية وكبيرة يمثلها شبان بسطاء جداً نحن نراهم وكأننا لا نثق بهم وهم أهل لهذه الثقة، العراق مكتنز بهؤلاء الموهوبين من مسرحيين و شعراء و نقاد و روائيين و موسيقيين... شيء لا يصدقه العقل، إنهم ثروة العراق الحقيقية، نعم هم وليس النفط، ثروة العراق هي الإبداع والثقافة هذه الثروة التي يجب أن نرعاها ويجب أن يتميز بها العراق فبها سيكون العراق قادرا على أن يستوعب المنطقة بكاملها ويقدم لها ثراءً جمالياً وفنياً هائلاً، ولكن للأسف من يفهم هذا؟ من يفهم؟ السياسيون الجالسون في البلد عليهم أن ينتبهوا الى إن جعجعة السلاح وسرقة المال والركض وراء الكراسي هو ليس الحقيقة الوحيدة في العراق، لأن هذا عيب، يكفي، لقد وصلنا الى حد الموت في هذا الموضوع، عليهم أن ينتبهوا الى إن هناك شعباً مبدعاً هم يحكموه وعليهم أن يفجروا طاقات هذا الشعب من جديد ليعلن عن نفسه (وادي رافدين) يحمل راية الإبداع العالمي كله. السياسيون يجب أن يعوا التراث العراقي والثقافة العراقية، أنا لا أفهم ما الذي ستخسره الدولة العراقية لو عملت لكل فنان عراقي ألبوماً خاصاً به يضم كل نتاجه ورؤياه، يضم ما قام به على مر السنوات، لم لا تفعل هذا؟ أنا لا أفهم ! | <>